مِن كوخ صغير جدّاً، في أحد أزقة الرمل العالي، الحيّ الأكثر اكتظاظاً في برج البراجنة، وقبل نحو 25 عاماً... ظهر زين الأتات كـ«خبير أعشاب». الكوخ الذي كانت تعلو عبارة «لكلّ داء دواء» بابه، لا يزل مكانه، فيما «طار» الأتات خلال تلك السنوات بعيداً، بشخصه ومنتجاته، جائلاً قارات العالم. مَن لم يسمع باسمه بعد؟ الأتات موقوف اليوم في نظارة، بعدما ادّعت عليه النائبة العامة الاستئنافيّة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، بجرم «التهرّب الجمركي وإدخال مواد مِن الخارج مِن دون إخضاعها للرقابة ودفع رسومها الجمركيّة، وتوزيع مستحضرات تجميل ومواد طبيّة في الأسواق مِن دون حصوله على إجازة مِن وزارة الصحّة». وقع الرجل، لكنّها ليست المرّة الأولى التي يقع فيها أمام القضاء، إذ كان يخرج كلّ مرّة منتصراً. لا يُريد أن يبتعد عن «الأعشاب». قيل الكثير، خلال سنوات شهرته، عن جهات نافذة تقف خلفه لا تُريد بدورها أن تبتعد عن تلك «الأعشاب»... وما وراءها.قبل نحو تسع سنوات، واكبت «الأخبار» خبر الادّعاء على الأتات، مِن قبل «الدولة اللبنانيّة» (بأمّها وأبيها) ممثلة بهيئة القضايا في وزارة العدل. آنذاك، كانت وزارة الصحّة تقف خلف الادّعاء، بشخص الوزير محمد جواد خليفة الذي ألغى رخصة استثمار مصنع «متمّمات غذائيّة» عائد للأتات، لأن مجموعة كبيرة من منتجاته «تحتوي على مواد كيماوية مضرّة بالصحة». كيف انتهت تلك القضيّة قضائيّاً؟ لا أحد يعلم. يكفي أن نتذكّر أن الأتات، شبه الأمّي، والآتي مِن بيئة تحمل «كأس العالم» في الفقر، نجح في جعل كريم بقرادوني (ما غيره) وكيله المحامي في تلك القضيّة. يومذاك، بدا رئيس مجلس شورى الدولة السابق، القاضي شكري صادر، الذي أحيلت إليه مراجعة بقرادوني الهادفة إلى وقف التنفيذ، عالماً بأن الأتات ليس مجرّد شخصيّة عاديّة، مدركاً إمكاناته الماليّة الكبيرة «التي تخوّله توكيل شخص بمنزلة بقرادوني». كان القاضي في تلك الأيّام يُردّد على نحو لافت عبارة «ما بدنا نتجّنى على حدا». الخلاصة، لم يلحق بالأتات أي أذى. غاب قليلاً عن وسائل الإعلام، التي كانت تلهث خلفه جاعلة الناس يحفظون اسمه ويشترون منتجه، خصوصاً القنوات التي تحبّ «مكافحة الفساد» وما شاكل... فبات يظهر على قنوات عربيّة فضائيّة عارضاً «أعشابه». وباتت له شعبيّة هائلة في منطقة شمال أفريقيا ومصر، الاتصالات مِن هناك تأتي بكثرة على قناة «المرأة العربيّة» لطلب منتج الانجاب و«البزرة» (بحرف الزين، كما يكتبها الأتات على علب منتجه). تلك القناة تشبه زين وهو يشبهها، القناة التي يشاركه فيها «شيخ» يُخرِج الشياطين التي تتلبّس المتّصلين على الهواء مباشرة، وغير ذلك مِن «حركات القرعة». يمكن لنا أن نسخر مِن الأتات، ومن زملائه في «الكار»، ولكن ساذج مَن يُنكِر أن هذا الصنف مِن الناس قرأ الناس جيّداً، وأنه، على ما يبدو عليه مِن غباء ظاهر، ذكيّ جدّاً في سحب ما في جيوب الناس. هذه موهبة، لا بد من الاعتراف له بها. بحسب مصادر قضائيّة، وفي قضيّة توقيفه الأخيرة، فإنّ المسألة بدأت على خلفيّة شيك بلا رصيد مع أحد شركائه، ليتبيّن لاحقاً وجود تهريب جمركي. يأتي بعشبة، أو ما يُسمى عشبة، مِن الخارج بسعر دولارين ويبيعها في لبنان بأكثر مِن 50 دولاراً، إضافة إلى غياب «الرقابة الصحيّة وعدم وجود فواتير، وبالتالي يمكن لهذا أن يتحوّل إلى جرم تبييض أموال».
يغيب اسم الأتات عن الفضاء العام لسنوات، ثم يعود ليظهر، كأنّ لا نهاية لمسلسله. عارفون بحياة الرجل يذكرون علاقاته العميقة مع سياسيين وأمنيين ونافذين، مع نساء النافذين تحديداً، خصوصاً اللواتي يردن لجمالهن أن يدوم بفضل ما يوفّره لهم الأتات مِن منتجات «اللاشيء». هو «بيّاع كلام». صار ضيفاً دائماً على حفلات «الكبار» وموائدهم، إلى جانب «المنجّمين» و«أصحاب التوقّعات». هؤلاء يشكّلون بيئة واحدة وتتقاطع «أرزاقهم» وسبلها. بيع الوهم صنعة يتقنها الرجل، والطلب على الوهم في سوق الخرافة مرتفع جدّاً. ظهر الأتات قبل مدّة كأحد المشاهير اللبنانيين في لقطة سينمائيّة، وقبل ذلك أسس نادياً رياضياً مع حملة إعلانيّة واسعة، قبل أن «يتبخّر» النادي بعد مدّة. ذات مرّة أصبح «سفيراً للأمم المتحدة» قبل أن يتبيّن أنها مجرّد «نصبة». هل سيسير القضاء اليوم بهذا الملف إلى أبعد مما كان يسير به سابقاً؟ يعني، هل سيكون الأتات «كبش محرقة» لغضبة نافذ ما، لسبب ما، أم أنّ التحقيق سيُفتح لتحديد الذين سمحوا له بالعمل بعد الادعاء عليه سابقاً؟ هل سيُصارح الناس، أقلّه الذين استهلكوا «السموم» العشبيّة، بما آل إليه ذاك الادعاء وكيف «نامت» أوراقه؟ هل سنعرف من يكون المسؤول الجمركي الذي كان الأتات يُهرّب «أعشابه» بواسطته؟ هل سنعرف كيف غاب خبره عن وزراء الصحة، على تعاقبهم، وعلى نقابة الأطباء ولجنة الصحّة النيابيّة؟ بالمناسبة، ادّعاء الدولة قبل 9 سنوات لم يكن محصوراً بالأتات، بل طال أيضاً ما كان يُسمّى شركة «أمانة كير». هؤلاء غابوا عن السمع مدّة، قبل أن يعودوا بأسماء مختلفة، والآن تُعرض إعلاناتهم «العشبيّة» على قنوات تلفزيونيّة لبنانيّة، رغم قرارات حظر هذه الإعلانات سابقاً. مَن يذكر إعلانات «جوجوبا» وذاك الرجل «تبع غسيل المصران»؟ هؤلاء لا ينقرضون، إنمّا، وبما يشبه التقمّص، يختفون ثم يعودون بهيئات مختلفة. هؤلاء مِن مناطق مختلفة، مِن طوائف مختلفة، حتّى هذه الأشياء تحتاج توازناً في بلادنا.
في مكان ما لا يُلام مَن يُعجب بزين الأتات. الرجل الذي فهم «السيستم» جيّداً، وأدرك أن الفقر يمكن ألا يكون قدره، وأن «الكبار» مِن حوله يأتون بالفظائع، ثم يفلتون مِن المحاسبة، فقرّر أن يلعب لعبتهم. سيقع أحياناً، لا بأس، إذ «جمع مالاً كثيراً جدّاً» (على حد قول مسؤول قضائي رفيع)، وبالتالي يُمكنه أن يستأنف حياته مِن جديد. لو كنّا في «دولة» لما كان لأحد أن يُعجب به، حيث سيُحاسب بقوّة ويمنع مِن اللعب بالناس، أقلّه كان ليشعر بالخوف قليلاً، ولكن هنا، في بلاد «ما قبل الدولة» أو «الدولة الفاشلة»... فإن المسألة مختلفة.