شاركتُ مقالة على حسابي على فايسبوك عن التمييز الجندري في الأكاديميا، لخّص فيها كاتبها الجوانب العديدة للتمييز المستمر، البنيوي منه وغير البنيوي الذي تتعرّض له النساء في الأكاديميا. وعلّقت بأنّ أحد الجوانب الأخرى للتجربة الأكاديمية التي تختلف بين الجندرين إن كان لديهما أطفال هي الإجازة البحثية والتي لم تتطرق لها المقالة. فالإجازة البحثية للأب غالباً ما تعني التفرّغ للقراءة والكتابة من دون الحاجة إلى الغوص في لوجستيات رعاية الأطفال، بينما تتحمّل الأمّ العبء الإضافي لتفرّغ الرجل من أجل إنتاجه الفكري. أمّا في الإجازة البحثيّة للأمّ الأكاديميّة، فنادراً ما يتغير حجم المسؤوليّات الأسريّة التي تحملها عادة، إلّا في بعض الحالات كي نتجنّب التعميم الكامل. ورغم أنّ تعليقي هذا كان في سياق الأكاديميا، إلاّ أنّ هذا الواقع يسود بشكل عام في أغلبية القطاعات، إذ تتحمل الكثير من الأمّهات العاملات في مختلف المجالات الجزء الأكبر من مسؤوليات الاعتناء بالأطفال والمنزل .ردّاً على مشاركتي هذه، باغتني سؤال لزميلة حول إن كان ما أريده هو أن تتخلّى الأم عن طفلها؟ استفزّني السؤال لكونه مبنيّاً على خيارين اثنين لا بديل عنهما: إمّا أن تتحمّل الأمّ المسؤولية الكبرى لرعاية أطفالها لتحقيق طموحاتها وتستجيب لمتطلبات عملها، أو تتخلّى عن أطفالها وأمومتها. وعليه فإن تجرّأت الأم بطلب المشاركة في توزيع مسؤوليات الاهتمام بالأطفال والمنزل، فهذا يعني ضمنيّاً محاولة منها للتنصّل من أمومتها.
ورغم أنّ هذه المعادلة قد تبدو دراماتيكية للبعض، إلّا أنّ هذه المنظومة سائدة بشكلٍ واسع بفضل القانون والثقافة. ويتجلّى الأثر الفادح لهذه المعادلة في أسوأ تجلّياته في حالة انفصال الطرفين، مجبراً الأمّهات على التحمّل بصمت مسؤولية الحضانة مقابل تحمّل الأمّ للعبء الأكبر من الرعاية، «شاكرة حظّها لعدم حرمانها من رؤية أطفالها»، بحسب الصديقة، كحال أخريات ممّن لم «تنعم» عليهنّ طائفتهنّ أو ظروف انفصالهنّ بنعمة التمتّع بأطفالهنّ. وفي وسط كلّ هذا الفرح والحبّ والإرهاق والتكاليف المادية الباهظة، من دون التطرّق إلى الطموحات والأحلام الشخصية المركونة لوقت آخر، لا يوفّر أغلب أصدقاء وأقارب هؤلاء الأمّهات فرصة لتذكيرهنّ بحسن حظّهن لأنهنّ يمارسن أمومتهنّ.
أمّا في حالة الوفاق، وكي لا تتّهم الأمّهات بأنهنّ أنانيّات ومتطلّبات، أسأن الفهم الحقيقي للعدالة الجندريّة والتي هي أسمى من أن يطالبن بالحقّ بنيل قسط بسيط من الراحة، أو التمتع بفنجان قهوة بهدوء قبل أن يبرد، أو أن يسعَيْنَ لتحقيق أهدافهن المهنية، تصمت غالبيتهنّ ويكتفين بالجزء المملوء من الكوب. فلا يمكن للمرأة الحصول على كل شيء في الحياة من عائلة وعمل، ناهيك عن إمكانية المساواة في المسؤوليات الأسرية. وأمّا إن تذمّرن من التعب أو مثيله فيُلمن بشتّى الطرق، حتى إنّ احدى الأخصائيات النفسيات علّقت على خسارة إحدى الأمهات لجنينها بأنّها تعرّضت للإجهاض لرغبةٍ في اللاوعي لديها بالتخلص من الجنين بعد أن كانت قد شكت سابقاً من تعب الأمومة.
كمحاضرة في جامعة، يكاد لا يمر فصل لي من دون أن تعتذر إحدى طالبات الماجستير عن إكمال المادة بسبب تهديد زوجها لاعتبارها مقصّرة في مسؤولياتها المنزلية بسبب الدراسة، أو تعبّر إحداهن عن قلقها من ألّا تتمكّن من إكمال متطلبات المادة بنجاح، بينما هي تعمل بدوام كامل وأمّ لعدد من الأطفال الذين يتطلبون المساعدة في واجباتهم المنزلية. إلى الآن لم يلجأ إليّ أيّ من الطلاب الذكور معبّراً عن هذا القلق.
ويبقى العون الوحيد للأمّهات خصوصاً ممن هنّ في سوق العمل، إن سمحت ظروفهن المادية، هو الاستعانة بالعاملات في الخدمة المنزلية بشكل أساسي واللواتي يتحمّلن المهمة الشاقة للاهتمام بالمنزل والأطفال. وفي ظل ضعف الحماية القانونية والحقوقية، تبقى العاملات الحلقة الأضعف في هذه السلسلة من الظلم. وتستمر هذه السلسلة لتمتد الى أوطان تلك العاملات الأجنبيات حيث تقع مسؤولية رعاية أسرهنّ على بناتهنّ في الكثير من الأحيان.
بينما حققت حملات المناداة بالمساواة الجندرية في التعليم والعمل والتمثيل السياسي أو القانوني بعض الخطوات، على أقلّه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتي قد تلتفّ حولها إلى حد ما الطبقة الوسطى من المجتمع إضافة الى فئات أخرى، لا تزال المساواة في تحمل مسؤوليات الأطفال والمنزل قضية ثانوية تتوجب «أن تكبّر المرأة عقلها» وأن لا تكون متطلبة ونكدة، بل تكون أكثر صبراً وأقل طموحاً. وإن لم تفعل ذلك فهي حتما تريد أن تتنصل من أمومتها وأن تتخلى عن أطفالها. ويسود هذا المنطق بغض النظر عن الخلفية الاقتصادية والأكاديمية او الثقافية. وإلى أن تنكسر هذه المعادلة، فما سيحققه آباء أطفالنا في مختلف المجالات وما سيصفق له المشاهدون على هذه الانتاجات سيكون مصبوغاً بتضحيات الأمهات (وبعون العاملات في الخدمة المنزلية الأجنبيات والمحليات) والظلم الذي يتحملهن اما طواعية او كراهية او من دون حتى أي وعي لكونه من المسلمات. اما الرجال ممن شاركوا نساءهن إمّا حبا او اقتناعا او كراهية بهذه المسؤولية، فهم لا يزالون جديرين بوسام البطولة على انجازهم العظيم.

* مديرة مركز الدراسات اللبنانية في الجامعة اللبنانية الأميركية