لطالما شكّلت الهجرة في لبنان منقذاً لاقتصاد غير مستدام وقاصر عن توفير فرص عمل كافية. «التضحية» بقسم من اللبنانيين و«تهجيرهم» في أرجاء المعمورة كان دائماً ضرورة لإنقاذ من اختار (أو من فُرض عليه) البقاء، أو أقلّه منح هؤلاء قدرة أكبر على الصمود من خلال التحويلات النقدية التي يتلقّونها من الخارج. على هذا الأساس، بُنيت سردية «الإعجاز» اللبناني في الاغتراب تشجيعاً لظاهرة تساعد، من جهة، على التخلّص من «فائض» سكاني لا قدرة للسوق على استيعابه، وللاستفادة، من جهة أخرى، من الموارد الماليّة التي يؤمّنها هذا «التهجير» لزيادة الناتج المحلي الإجمالي وزيادة حصة المقيمين منه. يُظهر مسح القوى العاملة والأوضاع المعيشية الذي أصدرته المديرية العامة لإدارة الإحصاء المركزي الشهر الماضي (تمّ جمع البيانات خلال فترة 12 شهراً بين نيسان 2018 وآذار 2019 وبلغ حجم العيّنة حوالى 40000 أسرة)، أن معدّل البطالة في لبنان يبلغ 11.4 في المئة، في حين تتخطّى هذه النسبة الـ 35% بين الشباب من حمَلة الشهادات الجامعية. إذ لا يستوعب سوق العمل أكثر من 4 آلاف فرصة عمل سنوياً، فيما يصل عدد خرّيجي الجامعات إلى نحو 36 ألفاً سنوياً. والمؤكّد أن هذه المعدلات زادت في الأشهر الأخيرة، بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول المنصرم، وما رافقها وتبعها من إغلاق لمؤسّسات بالجملة وصرف لآلاف الموظفين، واقتطاعات كبيرة من رواتب من بقوا في وظائفهم.


في مثل زمن الانهيار الاقتصادي والمالي الذي نعيش، وفي غياب أيّ خطط جدّية قادرة على انتشال اللبنانيين من الحفرة التي وقعوا فيها، تبدو الهجرة هي الحلّ. في هذا السياق، ارتفعت أعداد اللبنانيين الذين غادروا ولم يعودوا إلى 61,924 لبنانياً بين منتصف كانون الثاني 2019 ومنتصف تشرين الثاني الماضي، بحسب «الدولية للمعلومات»، وبزيادة وقدرها 42% عن الفترة المماثلة من عام 2018 (مع العلم بأنّ المتوسط السنوي لهجرة اللبنانيين لم يتجاوز عتبة الـ 60 ألفاً خلال فترة الحرب الأهلية).
إلّا أن المفارقة تكمن في أن النظام الذي بُنيت ركائزه على تشجيع الهجرة لمعالجة ضعفه قد يكون، في لحظة تفكّكه، سبباً أساسياً للحدّ منها. فتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى حدّ لا سابق له يُضعف من موقف المهاجر اللبناني أمام أرباب العمل الأجانب الذين قد يجدون الفرصة مناسبة لـ«قطف» هكذا «سلعة» بأبخس الأثمان. والحال أنّ المغتربين اللبنانيين، بقسمهم الأغلب خصوصاً في بلدان الخليج العربية حيث يقيم أكثر من 330 ألف لبناني (تمثّل تحويلاتهم بين 30% و40% من مجمل تحويلات المغتربين) يتمتّعون بمستوى أكاديمي وعلميّ أعلى من المهاجرين القادمين من بلدان فقيرة (تحديداً آسيوية) تعجّ بهم السوق الخليجية، ما كان يجعل منهم حاجة لقطاعات عدّة ويقوّي من موقعهم «التفاوضي». أمّا اليوم، بحسب الخبير الاقتصادي جهاد الحكيّم، فإنّ «اللبناني قد يُضطر، بحكم الظروف القاهرة وحاجته الماسّة للعمل، للقبول بشروط قاسية خصوصاً لناحية الرواتب. وإذا كان بعض المقيمين ارتضوا البقاء في أعمالهم مقابل نصف رواتبهم، فإنّ الشركات وأرباب العمل الأجانب لن يكونوا أكثر رأفة، ما يجعلهم أكثر عرضة للمساومة». وهذا ما قد يجعل من الهجرة أمراً غير مجدٍ. إذ «صحيح أنّ العمل أفضل من البطالة، لكن ما الفائدة منه إن كان مردوده بسيطاً. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنّ غالبية المهاجرين، خصوصاً الشباب منهم، يعوّلون على الهجرة لمساعدة عائلاتهم، وبالتالي، إذا كان ما قد يتقاضونه بالكاد يكفيهم في ظلّ غلاء المعيشة في أغلب دول الخليج، فلن تكون الهجرة أمراً مغرياً كما كانت الحال سابقاً».
معدلات الهجرة العام الماضي زادت عن المتوسط السنوي الذي سُجّل أثناء الحرب


أضف إلى ذلك أن الأسواق الخليجية لم تعُد توفّر فرص عمل كما كان الأمر سابقاً. وكالة «بلومبرغ» نشرت العام الماضي، على سبيل المثال، تقريراً أشارت فيه إلى «تراجع قياسيّ في عدد الوظائف في الإمارات، وإلى أن كثيراً من الشركات الخاصة خفّضت وظائفها بوتيرة هي الأسرع منذ عقد من الزمن». وأشارت إلى أن «سوق العمل في السعودية يتعرّض أيضاً للضغط، وقد وصل مؤشّر العمالة إلى أدنى مستوياته منذ 5 سنوات تقريباً».
والواقع أن هذه المعطيات قد تزيد من تأزّم الوضع الداخلي في ظلّ عدم القدرة على تصريف الفائض الكبير من العاطلين عن العمل إلى الخارج، ما قد يراكم الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، والتي يضاف إليها تراجع تحويلات المغتربين جرّاء فقدان الثقة المتعاظم بالقطاع المصرفي.