في السنوات المقبلة، قد يجني لبنان الثمار الأولى لاحتياطي النفط والغاز المدفون في مياهه. وقد تبلغ قيمة هذه الموارد عشرات مليارات الدولارات في بلدٍ لا يكاد يتعدى إجمالي ناتجه المحلي السنوي 40 مليار دولار أميركي. لهذه الموارد القدرة على تحويل الاقتصاد والمجتمع اللبنانيين تحويلاً جذرياً. لكن ما يحمله هذا التغيير من مخاطر لا يخفى على أحد. حيثما تُكتشف الموارد، تفقد قطاعات أساسية أخرى من الاقتصاد من تنافسيتها، وهو ما بات يُعرف بلعنة الموارد. وإذا ما أراد لبنان أن يتلافى هذا المصير، فعليه أن يحقق التنمية المستدامة وفقاً لخطة مُحكمة.

والأهم أن يتخذ لبنان قراراً بكيفية إنفاق مال النفط. تنص المادة 3 من قانون الموارد البترولية في المياه البحرية لعام 2010، على أن صافي عائدات النفط والغاز يودع في صندوق سيادي. لكن القانون هذا يغفل تحديد كيفية إدارة الصندوق، ويكتفي بذكر أن الصندوق يخضع لأحكام «قانون خاص» يُعتمد لاحقاً. وهذه المادة وحدها، من بين 77 مادة أخرى في قانون عام 2010، استقطبت النقاش في مجلس النواب عند التصويت على القانون. ولا عجب؛ إذ من عادة السياسيين في لبنان التركيز على أين يصبّ المال.
إن الصندوق هذا أساسي بالنسبة إلى التنمية في لبنان. ويعتمد حسن إدارته على الترتيبات المؤسسية التي ستضعها الحكومة اللبنانية. فسجل لبنان في إدارة الصناديق سجل أسود. نذكر على سبيل المثال صندوق المهجّرين الذي وصم بتهم الفساد، ومجلس الجنوب، الذي بإمكانه أن يسهم في تنمية إحدى المناطق الأكثر فقراً في لبنان، لكن غالباً ما يبدو أن المال يتبخر قبل الوصول إلى وجهته.
من البلدان التي نجحت في تفادي لعنة الموارد، نذكر النروج مثلاً. والفضل يعود إلى صندوقها السيادي النافذ والنموذجي، وهو ثمرة عملية طويلة من الإصلاح لم تصل إلى خواتيمها بعد. فالحكومات النروجية المتتالية قد منحت الصندوق هامشاً مهاماً من الحرية، فيما أبقت النمو المستدام نصب عينيها، كذلك فأنها سعت أيضاً إلى مواءمة الصندوق مع الحداثة. ولقد شهد الصندوق ثلاث موجات من الإصلاحات والتجارب ليرتقي إلى مرتبة الصندوق الأول في العالم.
وإذا ما أراد صندوق لبنان السيادي أن يشمل بمنافعه الأطراف كلّها، يجب أن يمتثل لأربعة مبادئ أساسية:
1. وضع أهداف واستراتيجيات استثمار محدّدة وواضحة، ما يحدّد صلاحية الصندوق لجهة أدوات الاستثمار من سندات وأسهم، وعقارات في الأسواق المحلية أو الدولية.
2. وضع قواعد مالية واضحة ترعى استخدام أموال الصندوق. من المسائل الأساسية التي يجب معالجتها هي الشروط التي تجيز للحكومة استخدام عائدات الصندوق. ففي غياب معايير واضحة، قد يلجأ السياسيون إلى الصندوق لتمويل حاجاتهم الشخصية أو الانتخابية.
3. ضرورة إرساء آلية حكم ملائمة تحدّد بوضوح دور الحكومة والهيئات الحاكمة ومديري الصندوق. ويجدر تحديد دور المديرين في اتخاذ قرارات الاستثمار.
4. ضرورة الاتسام بالشفافية والمساءلة. لذلك على الصندوق أن يعلن استراتيجية استثماره (أي ما هي فئات استثماراته)، وكيف يستخدم معايير القياس والتصنيف الائتماني. وعلى الصندوق أن يعلن أيضاً بانتظام حجم أمواله ومعدّل العائد وموقع الاستثمار ومحتوى العملات لديه.
صحيح أن هذه الشروط ضرورية، لكنها غير كافية. فلا بدّ من دمج الصندوق بالطريقة الملائمة في المالية العامة لكي يُدار إدارة فعالة، وإلا فسيؤدي النظام المالي الهش إلى تقويض أي صندوق، وإن كان يخضع لإدارة حسنة. وقد يستخدم السياسيون الصندوق هذا لسوء إدارة الموازنة وتفادي الإصلاحات الضرورية. وقد ينتهي المطاف بأن يمسي الصندوق موازنة ثانية أو موازية يمكن الحكومة أن تستخدمه كضمانة غير صريحة للاقتراض، ما يرمي لبنان في براثن لعنة الموارد.
للبنان تاريخ قاتم في إدارة ماليته العامة. فلم يكتفِ بعدم إعداد موازنة منذ عام 2005، لكن ضعف المؤسسات المسؤولة عن الموازنة، المتمثل بتعدد الموازنات وضعف التدقيق والافتقار إلى الشفافية، يقوّض الآمال بإدارة ملائمة للصندوق. وفي غياب الشروط المذكورة آنفاً، لن يجني اللبنانيون ثمار الموارد النفطية.
يزعم العديد من السياسيين اليوم أن موارد النفط والغاز هي الحل المرتقب للمشاكل التي يواجهها لبنان، لكن ذلك لا يُعدّ من المسلّمات. فإذا ما خضعت هذه الموارد لسوء الإدارة، فقد يتفاقم الفساد. واجتناب لعنة الموارد يجب أن يبدأ بإصلاح المؤسسات المالية للحرص على أن يخدم الصندوق السيادي التنمية المستدامة.
* المدير التنفيذي للمركز
اللبناني للدراسات