أعلن مجلس الوزراء، في 15 آذار 2020، «حالة الطوارئ الصحية» والتعبئة العامة، بسبب تفشّي فيروس «كورونا» في لبنان والعالم. لا شك في أنّ مواجهة انتشار هذا الوباء تحتاج إلى تدابير حازمة، لكن هل يتطلّب ذلك الذهاب إلى درجة إعلان حالة الطوارئ بمفهومها القانوني المكتمل، وما ينتج عن ذلك من فرض قيود خطيرة على الحريات العامة؟ لذلك، كان لا بدّ من شرح ما هو الفهم القانوني الصحيح لحالة الطوارئ والتعبئة العامة، وما هي التداعيات التي تنجم عن إعلانها في ظلّ التشريعات اللبنانية النافذة.
كولاج للفنان البولوني Kacper H. Kiec

حالة الطوارئ، هي نظام قانوني تضعه السلطات العامة موضع التنفيذ من أجل مواجهة ظروف استثنائية، والسماح لها باتخاذ تدابير لا يمكن تطبيقها عادة من ضمن الإطار القانوني العادي. وبالتالي، لا بدّ من التأكيد أنّ حالة الطوارئ لا تؤدّي إلى تعليق النظام القانوني، لكن إلى توسيعه، كون التدابير التي يتمّ اتخاذها تظلّ خاضعة للرقابة القضائية، ولا سيما رقابة مجلس شورى الدولة الذي يعود له تقدير في كل حالة مدى توافق تلك الإجراءات مع القوانين النافذة والضرورة الناجمة عن الظرف الاستثنائي. وهذا ما ذهب إليه مجلس شورى الدولة، إذ اعتبر التالي: «وحيث أنه لكي تتوفر الظروف الاستثنائية، يجب أولاً أن تكون هذه الظروف استثنائية حقاً، وللقاضي في هذا الصدد حق التقدير الواسع، وقد اعتبر الاجتهاد الفرنسي ظروفاً استثنائية التعبئة العامة، الحرب، التهديد بإضراب عام في المرافق العامة، الثورة الداخلية، وثانياً أن تكون المصلحة العامة أملت اتخاذ التدبير المشكوّ منه، ويتوفر هذا العنصر متى كانت الغاية من التدبير صيانة الأمن العام، وأخيراً أن تكون الإدارة مضطرّة لاتخاذ هذا التدبير توصلاً إلى الهدف المقصود» (قرار رقم 1227 تاريخ 1/8/1963).
عرف لبنان، منذ الانتداب وحتى اليوم، مجموعة من التشريعات التي تنظم حالة الطوارئ كان أوّلها القرار رقم 4/S، الصادر في 10 كانون الثاني 1925، ومن ثم القرار رقم 34 الصادر في 8 شباط 1936. وقد نصّت هذه القرارات، على نقل صلاحيات السلطات المحلية إلى المفوّض السامي الفرنسي، كي يمارسها مباشرة في حالة تعرّض أمن البلاد للخطر.
بعد الاستقلال، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 27 تاريخ 16 شباط 1953، والذي ألغى التشريعات السابقة واستعاض عنها بأحكام جديدة ترعى إعلان حالة الطوارئ، واضعاً الأسس القانونية التي ما زالت قائمة حتى اليوم بحيث بات إعلان حالة الطوارئ يتمّ بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء. وعقب اندلاع حرب حزيران بين إسرائيل والدول العربية، صدر في 5 آب 1967 المرسوم الاشتراعي رقم 52، الذي أعاد تنظيم الأحكام التي ترعى إعلان حالة الطوارئ، وهو التشريع الذي لا يزال نافذاً في لبنان، علماً بأنّ التعديلات التي أدخلت على الدستور عام 1990، جعلت إعلان حالة الطوارئ من المواضيع الأساسية التي تحتاج، وفقاً لما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور، إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء.
حدّدت المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي 52، الأسباب التي تؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية، وذلك «عند تعرّض البلاد لخطر مداهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلّحة أو أعمال أو اضطرابات تهدّد النظام العام والأمن، أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة»، بينما نصّت المادة الثالثة على النتائج المترتبة فور إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية، بحيث «تتولّى السلطة العسكرية العليا صلاحية المحافظة على الأمن، وتوضع تحت تصرّفها جميع القوى المسلّحة، ويفهم بذلك قوى الأمن الداخلي والأمن العام والجمارك ورجال القوى المسلّحة في الموانئ والمطارات ومخافر الأحراج وفي وحدات الحراسة المسلّحة ومفارزها بمن فيهم رجال الإطفاء، وتقوم هذه القوى بواجباتها الأساسية وفقاً لقوانينها الخاصة وتحت إمرة القيادة العسكرية العليا».
تؤدّي حالة الطوارئ إلى توسيع صلاحيات السلطات العسكرية، بشكل كبير، ليحق لها اتخاذ جملة من التدابير من بينها: تحرّي المنازل ليلاً أو نهاراً، فرض الإقامة الجبرية، منع الاجتماعات المخلّة بالأمن، إعطاء الأوامر في إقفال قاعات السينما والمسارح والملاهي ومختلف أماكن التجمّع بصورة موقّتة، منع تجوّل الأشخاص والسيارات في الأماكن وفي الأوقات التي تُحدد بموجب قرار، منع النشرات المخلّة بالأمن واتخاذ التدابير اللازمة لفرض الرقابة على مختلف وسائل الإعلام.
يتبيّن لنا، من خلال دراسة النظام القانوني الذي ينشأ عن إعلان حالة الطوارئ، أنّ التشريع اللبناني لم يأخذ بالتمييز الموجود في فرنسا، بين حالة الحصار (état de siège) وحالة الطوارئ (état d’urgence)، لا بل إنّ المرسوم الاشتراعي رقم 52 يطلق تسمية «حالة الطوارئ» بينما النظام القانوني الذي ينتج عنه هو بالحقيقة شبيه بحالة الحصار أكثر من حالة الطوارئ. فحالة الحصار في فرنسا، تم تنظيمها وفقاً لأحكام القانون الصادر في التاسع من آب 1849، والمعدّل بالقانون الصادر في 3 نيسان 1878، وقد نصّت المادة السابعة من قانون 1849 على التالي:
« Aussitôt l'état de siège déclaré, les pouvoirs dont l'autorité civile était revêtue pour le maintien de l'ordre et la police passent tout entiers à l'autorité militaire. L'autorité civile continue néanmoins à exercer ceux de ces pouvoirs dont l'autorité militaire ne l'a pas dessaisie ».
فحالة الحصار هي نظام قانوني عسكري، بحيث تنتقل صلاحيات السلطات المدنية في الزمن العادي إلى السلطات العسكرية، بينما حالة الطوارئ في فرنسا، التي استحدثت بموجب قانون 3 نيسان 1955، هي نظام قانوني استثنائي يؤدي إلى توسيع صلاحيات السلطات الإدارية كوزير الداخلية والمحافظين، لكنّها تظلّ نظاماً مدنياً لا دور فيه للجيش. وهكذا، يتبيّن لنا أنّ حالة الطوارئ في لبنان، هي في حقيقة الأمر مماثلة لحالة الحصار في فرنسا، كون السلطات المدنية تنتقل إلى السلطة العسكرية العليا المتمثلة بالجيش.
وهكذا، يُعتبر المرسوم الاشتراعي 52 استمرارية للقرارين 5/ S لسنة 1925، و34 لسنة 1936، كون المادة الثالثة من كليهما أعلنتا التالي: «للمفوض السامي أن يقلّد السلطة العسكرية في كامل أراضي الدول المشمولة بالانتداب، أو في جزء منها، سلطات الضابطة والقضاء التي تقوم بها عادة السلطة المدنية إذا حدثت اضطرابات خطيرة أو إذا أحوجت الظروف إلى ذلك».
نلاحظ أنّ التعبئة العامة لم يتم الإعلان عنها بمرسوم بل بمجرد قرار صادر عن مجلس الوزراء


نظراً إلى خطورة حالة الحصار وتداعياتها على حريات المواطنين، فرضت القوانين في فرنسا ضرورة الحصول على موافقة مجلس النواب الذي يحق له الإبقاء على حالة الحصار أو رفعها. وقد تكرّس هذا الأمر في المادة 36 من الدستور الفرنسي الحالي، التي تنصّ صراحة على أنّ إعلان حالة الحصار يتم بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء ولا يمكن تمديدها أكثر من 12 يوماً إلا بعد الحصول على موافقة البرلمان. وقد تبنّى لبنان، منذ عام 1953، هذه الآلية، وأكدتها المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 52 التي نصّت صراحة على التالي: «تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، على أن يجتمع مجلس النواب للنظر بهذا التدبير في مهلة ثمانية أيام وإن لم يكن في دور الانعقاد».
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: هل النظر في إعلان حالة الطوارئ يعني قدرة مجلس النواب على الموافقة عليها أو إلغائها؟ إنّ النص الفرنسي صريح لجهة اشتراطها موافقة مجلس البرلمان، بينما النص اللبناني يتكلّم فقط عن النظر في هذا التدبير. الأرجح، هو اعتبار موافقة مجلس النواب ضرورية، وهذا ما حصل بالفعل عندما تم إعلان حالة الطوارئ بموجب المرسوم رقم 13925 تاريخ 31 تشرين الأول 1956، فقد اجتمع مجلس النواب في النهار نفسه، ووافق بالإجماع على المرسوم المذكور، علماً بأنّ رئيس مجلس الوزراء قال قبل تصويت النواب: «إنّ القانون يحتّم على الحكومة تقديم مرسوم إعلان الطوارئ إلى المجلس ليأخذ علماً به». لا شك في أنّ هذا التصريح يكتنفه الغموض، فهو يقول فقط بضرورة إعلام مجلس النواب بحالة الطوارئ، بينما لم يكتفِ النواب بأخذ العلم بل صوّتوا عليه بالإجماع.
وفي 5 حزيران 1967، صدر المرسوم رقم 7508 معلناً حالة الطوارئ في كل لبنان، واجتمع مجلس النواب في النهار نفسه. محضر الجلسة جاء خالياً من أي إشارة تتعلّق بالموافقة على إعلان الطوارئ، بل يوجد مجرّد تصريح لرئيس مجلس الوزراء يعلن التالي: «إن مرسوم حالة الطوارئ صدر هذا الصباح عن مجلس الوزراء وأرسل إلى المجلس علماً به، وفقاً للدستور وللأحكام النافذة». وفي ختام الجلسة، يعلن رئيس مجلس النواب «أنّ مرسوم إعلان حالة الطوارئ في البلاد الذي صدر عن مجلس الوزراء هذا الصباح، أخذ المجلس علماً به وفقاً للدستور والأحكام النافذة».
وفي عام 1969، عقب الأحداث الأمنية التي جرت بسبب الوجود الفلسطيني المسلّح، صدر المرسوم رقم 12362 (23 نسان 1969)، الذي نصّ في مادته الأولى على التالي: «تعلن حالة الطوارئ في جميع أراضي الجمهورية اللبنانية، اعتباراً من تاريخ 23 نيسان 1969 ولغاية يوم الأحد الواقع في 27 نيسان سنة 1969». وبما أنّ حالة الطوارئ أُعلنت لفترة أقل من ثمانية أيام، لم يتم إرسال المرسوم إلى مجلس النواب كي يتخذ القرار المناسب بشأنه.
وعقب الاعتداء الإسرائيلي في الأحداث الشهيرة التي حصلت عام 1972، أُعلنت حالة الطوارئ (مرسوم رقم 3991 تاريخ 16 أيلول 1972) واجتمع مجلس النواب أيضاً، في النهار نفسه، وبالفعل تُلي المرسوم خلال الجلسة، لكن لم يتم التصويت عليه صراحة بل اكتفى المجلس بالموافقة على قرار يدين الاعتداء الإسرائيلي ويشيد بالجيش اللبناني. أما آخر إعلان رسمي لحالة الطوارئ، فقد حصل عام 1973، وتمّ بموجب المرسوم رقم 5513 (7 أيار 1973). ويغيب هذا المرسوم كلياً عن مجلس النواب، الذي لم يشهد الموافقة عليه أو تلاوته أو حتى أخذ العلم به.
إنّ إعلان حالة الطوارئ في لبنان لمواجهة تفشي فيروس «كورونا»، يجب أن يتم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، على أن يجتمع مجلس النواب للموافقة على هذا التدبير، بالرغم من أن السوابق لم تكن حاسمة في هذا الاتجاه، نظراً إلى التداعيات الخطيرة لحالة الطوارئ على الحريات العامة، ولا سيما في ظلّ أزمة سياسية واقتصادية تحاول فيها السلطة السياسية حرف أنظار المواطنين عن المطالبة بحقوقهم. فإعلان حالة الطوارئ العامّة قد يكون، بغضّ النظر عن ضرورتها الحالية، وسيلة من أجل زيادة منسوب القلق لدى المواطنين، ونشر الهلع بينهم، من أجل إحكام السيطرة على تحرّكاتهم المطلبية عبر اتخاذ إجراءات بحجة مكافحة هذا الوباء، حتى لو كانت ضرورتها موضع تشكيك.
وبالتالي، يصبح جلياً أنه لا وجود لشيء اسمه إعلان «حالة طوارئ صحية» من الناحية القانونية. أما التعبئة العامة التي أعلنها مجلس الوزراء، فهي تجد سندها القانوني في الفقرة «ب» من المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16 أيلول 1983 (الدفاع الوطني)، وتقوم على تطبيق مجموعة من التدابير تعلن بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء، كتنظيم المواصلات وفرض الرقابة على المواد الأولية والتموينية وتنظيم توزيع مصادر الطاقة. وفي حال شملت التعبئة العامة تدابير أشدّ، كمصادرة الأشخاص والأموال، نصّت الفقرة «د» من المادة الثانية نفسها على ضرورة مراعاة في هذه الحالة «الأحكام الدستورية والقانونية المتعلّقة بإعلان حالة الطوارئ»، ما يؤكد أنّ التعبئة العامة ليست إعلاناً للطوارئ، وحتى التدابير المتّخذة لا تصل إلى مستوى حالة الطوارئ، لجهة الحد من الحريات العامة وضرورة اجتماع مجلس النواب بغية النظر في هذه التدابير الاستثنائية.
ويشار هنا إلى أنّ التعبئة العامة، هي أيضاً من المواضيع الأساسية التي فرضت المادة 65 من الدستور ضرورة حصولها على موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل إعلان التعبئة العامة يتم بمرسوم بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء؟ وهل التدابير الخاصة التي يتخذها مجلس الوزراء بمراسيم، عملاً بقانون الدفاع الوطني تطبيقاً للتعبئة العامة، تعتبر منفصلة عن مرسوم إعلان التعبئة العامة، وبالتالي يمكن اتخاذها بالغالبية العادية؟
نلاحظ أنّ التعبئة العامة لم يتم الإعلان عنها بمرسوم، بل بمجرد قرار صادر عن مجلس الوزراء. علاوة على ذلك، نلاحظ أيضاً أنّ الإجراءات التي أعلنها مجلس الوزراء جاءت بصيغة قرار، وهي لم تقترن بصدور مراسيم يوقّع عليها رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المختص. لا بل إنّ البند الرابع من قرار مجلس الوزراء أعلن التالي: «تصدر التعليمات التطبيقية للخطط المبيّنة أعلاه، وللأحكام الخاصة التي تتناولها المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 102/1983 المعدّل، وذلك بموجب قرارات تصدر عن رئيس مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير المختص وتتضمن الفترات الزمنية لسريان تلك الخطط والأحكام الخاصة»، أي أنّ القرار يكون قد منح رئيس مجلس الوزراء سلطة لم يخوّله إياها قانون الدفاع الوطني الذي اشترط صراحة صدور هذه التدابير بمراسيم يوافق عليها مجلس الوزراء.
قد يكون مردّ هذا الخلل هو عدم وجود سوابق في هذا المضمار، وأن قانون الدفاع الوطني صدر قبل تعديل الدستور عام 1990، والذي جعل التعبئة العامة من المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء، من دون أن نجد في القانون المذكور إذا ما كان إعلان التعبئة العامة بحد ذاته يحتاج إلى مرسوم منفصل عن التدابير اللاحقة، التي فرض القانون ضرورة صدورها بمراسيم في مجلس الوزراء تطبيقاً للتعبئة العامة.

* أستاذ جامعي