استجابة الحكومة اللبنانية للتفشي الوبائي للفيروس الكوروني بنسخته الصادرة عام 2019 ممتازة وإن شابها بعض العيوب. حتّى الآن أظهر مثالان، لا ثالث لهما، فعاليّتهما في السيطرة على انتشار الغازي الخفي: تقليص الاختلاط بين البشر وتكثيف الفحوصات للحالات المشتبه بها. تبنّى لبنان الخيار الأول مبكراً مقارنة بمعظم الدول الأخرى، بينما لم يتمكّن أحد في العالم تطبيق الاستراتيجية الثانية إلّا كوريا الجنوبية والصين بعد استيعاب الصدمة الأولى لما حلّ بهما. يصعب التوقع إن كان لبنان سيصمد على هذه الوتيرة لكن هناك إجراءات لا بدّ من اتخاذها لتعزيز هذا الصمود، من بينها تطمين العمّال الأجانب المخالفين لشروط إقامتهم أنه لن يلحقهم أي أذى إذا ذهبوا إلى المستشفى إن ظهرت عليهم عوارض الكوفيد. كرّر رئيس منظمة الصحة العالمية أهمية الفحوصات ثلاث مرات في كلمته الأخيرة لأنه، حسب قوله، لا يمكننا إطفاء حريق مغمضي العينين. طبعاً هو لم يكن يتوجه إلينا بل إلى من يطمر رأسه في الرمال المتحرّكة تحت امبراطوريته الغارقة، أكان مركزها قصور لندن أو أسواق أسهم نيويورك أو مطار أتاتورك الجديد. لكن لا ضير في أن نتّعظ ونفتح أعيننا إلى من نتجاهل وجودهم في مجتمعنا.بعدما فشلت استراتيجية الإنكار (التي بالمناسبة أعادت توحيد الجمهورية العربية المتحدّة لبضعة أيام وكانت لتدوم لو لم يفضح الخواجات الذين أصيبوا في ست الدنيا انكارها)، يراهن توأما الحماقة في شارع داونينغ وجادة بنسيلفانيا على نظريّتين في مواجهتهما للوباء، الأولى هي ما يسمى «مناعة قطيعيّة» والثانية هي الصلاة. تقتضي نظرية مناعة القطيع بأن يختبئ كبار السن والذين يعانون من أمراض قد تشكّل خطراً على حياتهم، بينما يتصدى أمثال إدريس إلبا ومعه الملايين من الشباب ذوي المناعة القوية للفيروس عراةَ الصدور. فليسعل من يسعل ويُحَمّ من يُحَمّ، ويموت من يموت، وبعد مرور بضعة أسابيع يكون الفيروس قد انتفى بعد فشله في ايجاد أجساد جديدة تحتضنه. عندها يُفرج عن الفئة العمرية التي أدلت بأصواتها لبوريس جونسون في الانتخابات البريطانية الأخيرة والتي تظهر الاستطلاعات في الولايات المتحدة أنها ترجّح دونالد ترامب (وجو بايدن الترامبي الهوى لكن بقدرات عقلية متلاشية من جهة الديمقراطيين) على المرشّح الذي يعدهم بتغطية صحية عامة وحبيب المستعمَرين بيرني ساندرز. إنّها مقامرة لا أخلاقية بحياة الملايين وإن أُسبغت بغطاءٍ علميّ. قد يغيّر الخوف من الكورونا الكثير في الانتخابات الأميركية، لكن أستبعد ذلك كون عقيدة الاستثنائية الأميركية راسخة بشكل كبير في الولايات المتحدة، وسينجح ترامب ومعه إعلام الدولة العميقة في إلقاء اللوم على الصين وفنزويلا والإشتراكية، حتّى لو فشل رهانه على الاحتواء القطيعي.
سينجح ترامب ومعه إعلام الدولة العميقة في إلقاء اللوم على الصين وفنزويلا والإشتراكية


لكن معظم العالم ليس مصاباً بالغرور الأنغلوساكسوني الإنتحاري الذي سيفتك بأصحابه، وهذا العالم يتغيّر بسرعة تقارب سرعة انتشار ضيفنا الرذاذي الثقيل. نشهد في أوروبا دولاً يُثقِلها اقتصادها الكبير والمزدهر ولكن رغم ذلك حذت حذو لبناننا المفلس الذي لا يملك شيئاً يخسره إلّا مصرفييه ونجاستهم. إيطاليا، ثم اسبانيا، ثم فرنسا وستلحقهم كبيرتهم ألمانيا لا محالة وغيرها من الدول، كلها وضعت اقتصاداتها جانباً ولو مؤقتاً وحولّت أولوياتها إلى صحة مواطنيها. لا بل أكثر من ذلك، ضربت هذه الدول اتحادها المُزعم بعرض الحائط وأغلقت حدودها وتحوّلت إلى حارة «كل من إيدو إلو». دفع هذا التصرّف من قبل قبائل غرب أوروبا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش إلى التصريح بأن «التضامن الأوروبي ليس موجوداً، لم يكن إلّا [حبر] قصة خيالية على ورق. البلد الوحيد الذي يمكنه أن يساعدنا في هذا الظرف الصعب هو جمهورية الصين الشعبية. للآخرين أقول، شكراً على لا شيء»، طبعاً فوتشيتش ليس قدوةً، فهو خدم مصالح من ينتقدهم طويلاً قبل أن يهجروه، وكان يتملّق للّوبي الصهيوني في مؤتمر «آيباك» في واشنطن الشهر الماضي. أولوية الصحة دفعت بإسبانيا وإيطاليا وفرنسا إلى التوجّه نحو تأميم مستشفياتها الخاصة. والتأميم بالمناسبة هو عكس الخصخصة وليس بعبعاً كما أوحى لنا وما يزال يوحي لنا خَدَمة منظومة المصارف العفنة الحاكمة، بل هو ضرورة سيادية، وقد أثبت أداء مستشفانا الحكومي في المحنة الأخيرة ذلك (حتّى الآن)، خاصة إذا ما قارنّاه مع تقاعس مراكز التجارة الصحية اللمّاعة التي تسمّى زوراً مستشفيات. قرار التأميم هذا، إن حصل، لن تتّخذه هذه الحكومة التي لا تزال تغازل صندوق النقد الدولي، بل سيفرضه التطوّر المتسارع للأمور الذي قد يطيح بالمنظومة الاقتصادية العالمية بأكملها ومعها صندوقها الاستعماري المفدّى.
تترنّح منظومة الاقتصاد المعولَم، وإن كان الأصح نعته بالمهَيمَن، منذ بعض الوقت وقد تعمّق الرفيقان عامر محسن وعلي القادري في الكتابة عن هذا الموضوع مراراً على هذه الصفحات (إقرأوا مقال «مَن المحاصَر؟» للأخير في ملحق رأس المال)، ولا أحد يدرك حتّى الآن تداعيات جائحة الكورونا على الاقتصاد العالمي. إذ أننا لا نزال في مرحلة مبكرة ومربكة من تفشي المرض. لكن توجد إشارات واضحة الى أن عالم ما بعد كوفيد 19 لن يكون كما ما قبله. يصعب استيعاب وفهم ما يحصل، فهو سورياليٌّ ويبدو أنه سيناريو فيلم رديء. عالمنا قُلب رأساً على عقب. تصوّروا أنه منذ أسبوع لا أكثر، كان فريق أتليتيكو مدريد يُقصي العملاق ليفربول في الدور الثمن النهائي من دوري أبطال أوروبا بكرة القدم في ملعب آنفيلد أمام 50 ألف متفرّج. منذ أسبوع قال الحاكم الفاشي للبرازيل جائير بولسونارو من مدينة ميامي إن فيروس الكورونا ليس بالحجم التي تدّعيه وسائل الاعلام. منذ أسبوع، كان الطيران المدني يملأ أجواء العالم. في سبعة أيام، تحولت كرة القدم إلى ذكريات، وخضع فيروس جنوب أميركا الجائر لفحص الكورونا، وذكّرتنا السماء بلونها الأزرق الطبيعي غير الملوّث.
نعيش اليوم حالة عالمية غير مسبوقة، كل شيء يتغيّر بسرعة. لا يمكن توّقع ما حجم التغيّرات، لكنّها قادمة حتماً. في بلدنا المأزوم، الأولوية هي لمواجهة الوباء والحفاظ على حياة الناس. وحتى الآن، يقوم المسؤولون بواجبهم في هذا المجال. طبعاً، لم ننسَ أموال الناس، وهنا ثاني أهمّ اختبار لهذه الحكومة ومن المفترض أن يكون على أجندتها هذا الأسبوع. كما ارتقى المستشفى الحكومي إلى مسؤولياته، لا بد من مصرف الدولة أن يقوم بالمثل. ولكن لن يكون ذلك بالتسامح مع العملاء ولا الخضوع لتهديدات معتوهٍ يضحّي بالملايين من شعبه ظنّاً منه أنه بذلك يحمي مؤشرّات أسهم وول ستريت من الاحمرار.
لقد أفلَت عميلٌ مجرمٌ قاتلٌ ولن يُنتسى ذلك مهما فعلت هذه الدولة بعد اليوم. لكن للأسف لا يزال يتحكّم بمصيرنا عملاءٌ آخرون مهووسون هَوس دونالد ترامب بألوان أرقامٍ على شاشات يظنونها ثروات تخصّهم. اليوم تتوجه الناس في محنتها إلى الدول وسأقوم بالمثل: إذا أردتم الغفران عن خطيئتكم التي لا تُغفر، أمسكوا بهؤلاء العملاء وحاسبوهم قبل أن يفلتوا منكم هم أيضاً تاركين لكم اللا شيء الذي ذكره المتملّق الصربي العفن. هم وباءٌ بشريٌّ جشعٌ عفنٌ يلفظُه العالم اليوم. عاقبوهم اليوم قبل الغد، لأنه إن أفلتوا منكم بلا عقاب، لن يتركوا لنا اللا شيء، بل سسيتركون لنا رؤوسكم أنتم.