تدخل إيطاليا أسبوعها الرابع على أسوأ أزمة وطنية منذ الحرب العالمية الثانية، من دون نهاية تظهر في الأفق. أكثر من 60 مليوناً يعيشون، بشكل متزايد، في إقفال تام يزداد ضيقاً، من دون أن يمنع ذلك ارتفاع عدد الإصابات بفيروس «كورونا» المستجد بمعدّل 3500 حالة جديدة أو أكثر كل يوم، بينما تجاوز عدد الوفيات، مساء أمس، حصيلة تلك المسجّلة في الصين، مع تسجيل 427 وفاة خلال 24 ساعة، لتبلغ الحصيلة الإجمالية 3405. بذلك، تصبح إيطاليا الدولة الأولى من حيث عدد الوفيات من جراء «كوفيد ــــ 19»، وتأتي بعدها الصين (3245) وإيران (1284) وإسبانيا (767).في شمال إيطاليا، تحديداً في مدينة بيرغامو التابعة لإقليم لومباردي حيث يتركّز أكبر عدد من الحالات، يتم تكديس الموتى لدفنهم، في حين مُنعت الجنازات. التوابيت تصطف في الكنائس، بينما جثامين الذين توفّوا في بيوتهم تُركت في غرفٍ مقفلة، في وقت تنازع المؤسسات المتخصصة للتعامل مع الوضع، في ظل نقص التوابيت، وعدم قدرة التجّار على تلبية الطلبات المتزايدة عليها. ووصل الأمر، أمس، حدّ إرسال ​الجيش​ الإيطالي 15 شاحنة عسكرية و50 جندياً لإجلاء جثث ​الضحايا إلى مناطق مجاورة بسبب عجز السلطات المحلية عن التعامل مع الأعداد المتزايدة من الوفيات. هناك يشاهد الناس المأساة بأمّ العين، وقد لخّصها مدير مركز الدفن في المقاطعة، أنطونيو ريتشاردي، لصحيفة «ذي غارديان» البريطانية، بالقول إن «جيلاً كاملاً مات خلال أسبوعين. لم نشهد أبداً شيئاً مماثلاً، وهذا يدفعك للبكاء».

توابيت في إحدى كنائس مقاطعة لومباردي في انتظار السماح بدفن الموتى(أ ف ب )

إلّا أن المأساة لا تقتصر على إقليم لومباردي، بل تمتد إلى مختلف المناطق الإيطالية، حيث تطال الأحياء قبل الأموات، ليتكدّس المرضى في المستشفيات الميدانية، أو في ممرّات المستشفيات العامّة، في وقت أفادت فيه الأرقام الرسمية عن وجود أكثر من ألفي شخص في العناية الفائقة، غالبيتهم في إقليم لومباردي، الأمر الذي دفع الأطباء إلى فرز المرضى، من أجل اتخاذ القرار بشأن من يُعالج ومن يُترك ليموت. وبحسب ما يشير إليه العديد من المختصّين، فإن سبب هذه الطفرة المفاجئة في معدّل الوفيات في المنطقة الشمالية، يعود، ببساطة، الى عدم وجود ما يكفي من أسرّة لوحدات العناية المركّزة، أو أجهزة التنفّس الاصطناعي لكلّ مريض، ما يجبر الأطباء على الاختيار بين من سيحصل على سرير في وحدة العناية المركّزة ولديه فرصة البقاء على قيد الحياة، في مقابل الذين لا يمكنهم الحصول على سرير، وعلى الأرجح لن يستطيعوا البقاء أحياء. «في لومباردي انهار النظام الصحي»، يقول الطبيب ألسندرو غريمالدي، مدير قسم الأمراض المعدية في مستشفى سالفاتور في لاكويلا، لشبكة «سي ان ان»، مضيفاً أنه «لا يوجد ما يكفي من المعدّات. إنهم يختارون الشباب، بناءً على القاعدة الطبية التي تقول بمحاولة إنقاذ الذين لديهم احتمالات أكبر في الحياة». ويرى غريمالدي أن «الطريقة الوحيدة للقتال في هذه المعركة، من أجل الحفاظ على النظام الصحي قبل الانهيار الكامل، هي عبر زيادة الموارد»، معتبراً أنه «ربما كان يجب على الحكومة القيام بذلك من قبل، والإعداد بشكل أفضل».
لوم الحكومة يتردّد على أكثر من لسان، وقد تتّضح صحّته مع مرور الوقت، وفي ظلّ الارتفاع الكبير في عدد الضحايا. «سي ان ان» نقلت عن الرئيس السابق للجمعية الأوروبية ـــ الإيطالية لعلم الأوبئة، وأستاذ علم الفيروسات وعلم الأحياء الدقيقة في جامعة بادوفا، جورجيو بالو، قوله إن «الإقفال كان يجب أن يكون أوسع وأكثر حزماً في وقت أبكر، كما يجب أن يكون أضيق الآن». وفيما يرى هذا الأخير أنه «كان يجب علينا إجراء المزيد من الاختبارات في لومباردي حيث توجد نواة كبيرة»، أكد أن «الحكومة الإيطالية تخلّفت في البداية»، مضيفاً أنها «تكاسلت».
أرسل ​الجيش​ 15 شاحنة عسكرية و50 جندياً لإجلاء جثث ​الضحايا من لومباردي


يتماهى كلام بالو مع كثير من التحليلات والخلاصات التي جرى التوصّل إليها عند البحث عن الأسباب وراء انتشار فيروس «كورونا» بهذه السرعة والقوة في إيطاليا. ولا يختلف اثنان على أنّ إيطاليا كانت، في البداية، في حالة إنكار، ولم تتحرّك بالسرعة الكافية للانخراط في تدابير الفصل الاجتماعي والحظر. وهي المشكلة ذاتها التي تشهدها، حالياً، الولايات المتحدة، ودول أوروبية أخرى، مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا. لكن القنبلة الفيروسية انفجرت بكامل قوّتها في إيطاليا أكثر من غيرها، وسرعان ما وصل نظام الرعاية الصحية إلى نقطة حرجة، الأمر الذي ربطه العديد من الباحثين بأسباب أخرى، منها الاجتماعية. فقد أشار تقرير لشبكة «فوكس نيوز» الأميركية إلى أن كثيراً من الخبراء يرون أن الترابط العائلي والثقافة التي تحدّد طريقة الحياة الإيطالية قد يكونان أدّيا إلى تفاقم تفشي الفيروس. ووفق تقرير نشره باحثون في «جامعة أكسفورد»، فإن إيطاليا تحتوي على نسبة كبيرة تصل إلى 23.3% من السكان الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً، بينما هناك أُسر متعدّدة الأجيال، لا تزال إما تعيش تحت سقف واحد أو قريب بعضها من بعض وتحيي المناسبات العائلية الكبيرة بنحو متكرّر. ومن هذا المنطلق، يرى هؤلاء الخبراء أنّه أصبح من الواضح أنّ تطوّر الوباء وتأثيره قد يكونان مرتبطين بقوة بالتكوين الديموغرافي للسكان، وعلى وجه التحديد الهيكل العمري للسكان.
وبالمقارنة مع معظم أوروبا وحتى العالم، فإنّ إيطاليا تتمتّع بأطول متوسّط عمري بين السكان، يصل إلى 82.5 سنة، وفقاً للبنك الدولي. واستناداً إلى ما يعرفه العلماء، حتى الآن، عن فيروس «كورونا»، فإنّ السكان الأكبر سناً هم أكثر عرضة للوفيات الناجمة عن العدوى.