بدت الضربة مباغتة ومزلزلة في نيويورك، قلب أميركا ورمز إمبراطوريتها، من عدوٍ لا يُرى، مجهول وغامض. أُطفئت أنوار مسارحها الشهيرة، وخلت شوارعها وجسورها من مظاهر الحياة، انكفأ مقرّ الأمم المتحدة على مخاوفه من تفشّي العدوى، وتراصّت الجثث في توابيت أمام واجهات المستشفيات، انتظاراً لشاحنات تحملها إلى مثواها الأخير من دون وداع.بقدر الانكشاف والتخبّط في أكثر دول العالم قوة ونفوذاً، اهتزّت معادلات وتغيّرت حسابات ووضع مستقبل الإمبراطورية بين قوسين. لا يمكن مقارنة ما يحدث، الآن، في جنبات نيويورك، بما تعرّضت له في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001، من حيث حجم الترويع والتبعات المحتملة.
في أحداث أيلول/ سبتمبر، تبدّت ثغر أمنية فادحة سمحت لمجموعة من تنظيم «القاعدة»، المصنّف إرهابياً، بأن تقتحم بالطائرات برجَي التجارة العالمي، ومقر البنتاغون، وتُسقط آلاف الضحايا المدنيين. هذه المرة، الثغر الصحية والسياسية يصعب سدّها من دون أثمانٍ باهظة تنال من هيبة القوة العظمى الأولى ومكانتها وقدر نفوذها في عالمها.
كذلك، يصعب التوظيف السياسي لوقائعها في تصفية حسابات، كالتي جرت بعد أحداث أيلول/ سبتمبر، وأفضت إلى تحطيم العراق بلداً ومستقبلاً، من دون أن تثبت عليه ادعاءات امتلاكه أسلحة دمار شامل، ولا تأسّست دولة حديثة ديموقراطية كما رُوّج وقتها لتسويغ الاحتلال.
في أحداث أيلول/ سبتمبر، طلب اليمين الأميركي إعادة صياغة خرائط الشرق الأوسط، بما يمكّن إسرائيل من قيادته والتحكم في مقاديره، لكنّه لم يحقق كامل مراده. ورغم أنّ الإدارة الحالية أكثر انحيازاً لإسرائيل من أيّ إدارة سابقة، إلا أنّ فكرة توظيف ضربات الوباء لتصفية حسابات جديدة في الشرق الأوسط مستبعدة نسبياً.
يُفترض في دولة تمتلك أقوى اقتصاد، وأفضل الجامعات ودور العلاج ومراكز البحوث العلمية والطبية، أن تُبدي قدرة أكبر من غيرها في السيطرة على الوباء، غير أنّه أفلت عن كل سيطرة وفاقت الخسائر أي توقع. في لهجة ساخرة، دوّنت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون: «وعد فأوفى... أميركا أولاً»، قاصدة الشعار الذي تبنّاه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي خاضتها ضده، فيما حقّقت أميركا أعلى نسبة إصابة بفيروس «كورونا» المستجد في العالم. وفي لهجة متحدية، دعت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى محاسبته على إنكاره مدى خطورة الوباء حتى استفحل.
بغض النظر عن الصراعات الداخلية، التي تدعو الديموقراطيين إلى النيل من ساكن البيت الأبيض قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنّ مستوى الأداء الرئاسي أقرب إلى الهزل المفرط أمام فيروس يحصد الأرواح بلا رحمة. يتحمّل ترامب المسؤولية السياسية الأولى عن قدر الإخفاق المروّع في إدارة أزمة «كورونا» المستجد، حتى استفحل في الولايات المتحدة كلّها. تجاهل تقارير استخباراته، التي دعته مبكراً إلى التحوّط والاستعداد، ساخراً من الوباء، كأنه «انفلونزا اعتيادية». دخل مماحكات لا لزوم لها مع الصين، استهلكت وقتاً طويلاً، قبل أن يضطر تحت تفاقم الوباء إلى فتح قنوات اتصال مع الرئيس الصيني، للتنسيق وتبادل الخبرات في مواجهة العدو المشترك.
حاول توظيف الوباء في حملته الرئاسية لتجديد ولايته، في الخريف المقبل، تحدّث في ما يعرف وما لا يعرف، أفتى في أمور طبية فنية دقيقة بلا دراية، أصدر قرارات من دون تشاور مع حكام الولايات، ثم تراجع عنها، كإغلاق منطقة نيويورك. أعلن انتصاره المبكر في الحرب مع الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية، قبل عيد الفصح، قبل أن يتراجع كالعادة، ليقرأ من نصٍّ مكتوب أنّ إعلان النصر قبل موعده خطأ كبير.
توقّع مساعدوه الطبّيون أن يموت من جراء الوباء مئتا ألف أميركي، فاعتبر ذلك دليلاً على أنّه يقوم بـ«عمل جيد»، قائلاً إنه كان متوقعاً أن تصل أعداد الضحايا إلى مليونين.
رغم تراجعاته المتكرّرة، فهو يصرّ على «روعة» الأداء السياسي الذي يقدّمه، كلّ ما يفعله رائع، ومساعدوه رائعون، وأي سؤال محرج نسبياً فهو مؤامرة تسقط عن أصحابه أيّ جدارة بالانتساب إلى مهنة الصحافة.
ترامب تعبير صارخ عن قدر أزمة الإمبراطورية الأميركية، لكنّه ليس الأزمة نفسها. به أو من غيره، فإنّ أزمة الإمبراطورية الأميركية جوهرية ولها تاريخ، لكنّه بسوء فادح في الأداء يطرح سؤال مستقبلها، كما لم يحدث من قبل منذ الحرب العالمية الثانية. هو عاملٌ مساعد في الانكشاف الأميركي تحت وطأة ضربات «كورونا»، وليس العامل الأساسي في التراجع المتوقع على خرائط القوة والمكانة والنفوذ في العالم.
قيل على نطاق واسع، قبل أن يطلّ القرن الحادي والعشرين، إنه سوف يكون أميركياً، فتركّز عناصر القوة بمعناها الشامل، يرشّحها لأن تتصدر المشهد الدولي بلا منازع. كان ذلك استباقاً للتفاعلات الدولية في عالم متغيّر. وقيل على نطاق واسع عند سقوط جدار برلين، عام 1989، إنّ القرن الجديد قد ابتدأ الآن. كان ذلك بدوره استباقاً آخر للحقائق التي تبدّت في ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وحلف «وارسو».
استعادت روسيا شيئاً من إرث النفوذ الدولي، وبرزت الصين كقوة اقتصادية عظمى تُزاحم الولايات المتحدة، اهتزّت أحوال «حلف شمال الأطلسي»، كأنّه أُدخل غرفة عناية فائقة، بتعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وترنّحت المنظومة الغربية على نحو غير مسبوق، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي صعدت بمقتضى نتائجها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق إلى منصة زعامة النظام الدولي.
تتجلى الحقائق الكامنة، الآن، تحت ضربات الوباء. الاتحاد الأوروبي مستقبله بين قوسين كبيرين، والزعامة الأميركية تدخل بدورها بين أقواس أخرى. انكشفت الرأسمالية المتوحّشة في ميادين المواجهة، وتبدّت الحاجة الماسّة إلى الدولة القوية والعادلة، إلى نظم صحية تتأكد أهميتها فوق العضلات العسكرية.
بتلخيص رمزي، فإنّ جائحة «كورونا» هي البداية الثانية للقرن الحادي والعشرين، أو البداية الحقيقية التي تؤسّس لما بعدها من تفاعلات وعلاقات وقيم وأفكار ونظرات إلى الحياة، قد يقدّر لها أن تسود وتطبع الحركة للمستقبل. بمعنى آخر، فإنّ الفترة الزمنية بين عامي 1989 و2020، أقرب إلى مرحلة انتقالية بين قرنين من حيث حقائق النظام العالمي وموازين القوى فيه، والقيم الرئيسية التي تسوده. باليقين، فإنّ القوة الأميركية لن تغادر مقدمة المسرح الدولي إلى كواليسه مرة واحدة. وربّما يمكنها التصحيح والتكيّف مع حقائق العالم المتغيّرة، لكن ليس بوسعها مهما تغيّرت الرئاسات وتحسّنت مستويات الأداء السياسي، أن تحتفظ بالقيادة المنفردة على النحو الذي بدا، عند انهيار جدار برلين. ومن المرجّح أن تتراجع خطوتين أو ثلاثاً إلى الخلف لصالح صعود محتمل للصين وقوى أخرى، قد تثبت كفاءتها أثناء الحرب على الوباء المستشري.
هناك استدعاء واسع لقيم التكاتف الإنساني ووحدة المصير الإنساني، الذي لم تعترف به أبداً الإمبراطورية الأميركية، في سنوات ذروتها، واستدعاء آخر لعلاقات أكثر عدلاً اجتماعياً في مواجهة الموت المشترك، الذي يكاد يفتقر رصيدها السياسي إلى تجربته، حتى إن المرشح الرئاسي الديموقراطي بيرني ساندرز استُبعد على خلفية خطابه الاشتراكي، رغم دعم قطاعات واسعة من الشباب له.
يتأكد، الآن، تهافت نظريات «نهاية العالم» و«صراع الحضارات»، التي ركّزت على التفوّق الغربي، ونظرت باستعلاء إلى بقية الجنس البشري. يوشك عالم جديد أن يولد، لا هو عالم «الكاوبوي» الذي يشهر سلاحه في وجه الآخرين ليملي إرادته، ولا عالم تنفرّد بمقاديره قوة واحدة مهيمنة، وليس بوسع أحد فيه أن ينكر ما هو مشترك من إرث إنساني.
بطبائع التاريخ، لن يكون التحوّل إلى المستقبل رحلة صيفية في قارب على سطح نهر تحت أضواء القمر. إنّه موضوع صراع ضار بين قوى ومصالح وأفكار، بين جديد يطل وقديم يقاوم بضراوة. بين القيم الإنسانية التي تأكدت في الحرب مع «كورونا»، والشعبوية التي قد تستثمر الحرب نفسها لتأكيد الانغلاق والعزلة باسم تفوّق مدّعى أو عدم جدوى الارتباط بجماعات أكبر.
في الحرب القاسية مع عدو مجهول يضرب بقسوة من دون أن يُرى، تجد الإمبراطورية الأميركية مستقبلها بين قوسين.
* كاتب وصحافي مصري