انشغل المفكّرون والفلاسفة و اللغويون والمتكلّمون والمفسرون، بالبحث في دلالة اللغة، وذهبوا فيها مذاهب، وقالوا بالمحاكاة أي أن الدلالة اللغوية تُحاكي أصوات الطبيعة، كالماء والهواء والرعد وأصوات الحيوانات والطيور، وكأنّ هذه النظرية تعود إلى أسّ المعرفة عند أفلاطون. وذهب فريق إلى أنّ اللغة توقيف، وهو رأي بعض المفسّرين في تفسير الآية الكريمة «وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة». وحاول البعض أن يرد الدلالة إلى الاعتباطية، وقد نسميها المواضعة أي تعارف المجتمع عليها، والحق أنّ هذه الآراء إذا حملناها على الجدية التامّة، فإننا سنصطدم ببعض المشكلات التي تواجه كلّ نظرية على حدة.واذا شئنا الدقة، فإن محاكاة بعض أصوات الطبيعة في مكان ما، ستصطدم بالذين يذهبون مذهب الاعتباط، والذين يقولون بالمحاكاة سيواجهون دلالات مختلفة في لغات مختلفة، تعبّر عن مدلول واحد مثل دلالة التفاحة أو غيرها من الفواكه. وإذا قلنا بالتوقيف، فإن هذا الكلام يحتاج إلى بسط قول يحتاج إلى جهد واسع من التأمل، والقول بالتوقيف فيه نظر إذا حصرنا الدلالة في لغة القرآن الكريم، فيرى المرحوم أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين، أنّ القرآن الكريم لم يستخدم مفردة كما استخدمها الجاهليون، فالقول بالتوقيف في دلالة القرآن أقرب إلى الدقة، إنّه القول الثقيل، قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم (ص): «إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلاً».
غير أنّ هذا التوقيف، وإن كان منوطاً بالقرآن الكريم، فإنّ لغة القرآن أثّرت في وجدان المتلقي، وأثّرت في الشعر العباسي، أكثر ممّا أثر فيه شعر الجاهليين، بل إنّ أول إبداع الشعراء العباسيين هو أنهم ثاروا على شعر الجاهليين ثورة عارمة، بدأت بأبي تمام ونضجت على المتنبي وأبي العلاء وغيرهم.
وإذا قالوا عن التداول بأنه سنة لغوية وتمر بكل اللغات، فإنّ ذلك لا ينسحب على اللغة العربية التي كفل استمرارها القرآن الكريم، وصارت مقدّساً عند العرب والمسلمين، إلّا أنّ اللغة تتطوّر وتتداول وتتّسع، ونحن في هذا الإطار علينا أن نفرّق بين مفهومين، مفهوم اللغة ومفهوم النظام اللغوي. فمفهوم اللغة يعني تلك المفردات التي تشبه القوارير، أو كأنها كبسولات يتعدّد استخدامها، وهذه اللغة بهذا المفهوم تزيد وتتسع، ما يزيد عندنا من ظاهرة المشترك اللفظي ـــ على سبيل التمثيل لا الحصر ـــ غير أنّ النظام اللغوي أكثر ثباتاً واستقراراً، وهو يقوم على بنى ثلاث: النحو والصرف والصوت، غير أنّ الصوت أكثر تلك المستويات الثلاثة عرضة للتغيّر .
وإذا تجاوزنا النظام اللغوي، وقاربنا اللغة، فمن الممكن أيضاً مناقشة مفهومين، الأول عام، والثاني خاص. أما الأول، فإنهم قالوا إنّ الأصل في اللغة الحقيقة، وأنّ الانصراف إلى المجاز لا يتم إلا وفق قرائن مقالية وحالية، لكنّ انصراف الذهن الذي هو أشبه بالومضة، هو برهة من الزمن، وليس في سياق التحليل. إنها سرعة الخيال الذي يمارسه المتلقّي في فهم الدلالة، والذي يسارع بحملها على المجاز وكأنها رسالة مشفّرة. ومن هنا، فانّ اللغة قد تتكاثر في اليوم على مستوى اللغة المعينة، تكاثراً قد يصل إلى آلاف المعاني. وعلى مستوى آخر، فإنّ المتكلّم الباقلاني قسّم الحقيقة إلى: لغوية وشرعية. ويقوم هذا التقسيم على مسارين، فمسار لغوي تحويه المعاجم، ومسار شرعي يحويه النص، وكأنهم نظروا إلى النص خارج اللغة، وتلك المشكلة ستؤدي خطأ إلى اعتماد حجية اللغوي عند البعض، الذي جمع اللغة وذهب لجمعها من ممارسات الناس لدى قبائل مختلفة.
قد يعبَّر في أيام قادمة عن أن المجتمع أصيب بهاجس الـ«كورونا» ويقصد به الخمول والتفكّك والغياب


تكمن المشكلة في حيثيات متعدّدة، وبعضها غياب حقيقة أنّ النص لغة لكن هذه اللغة لا يمتلك أسرارها اللغويون (عرفاً)، وحين نقول اللغويون عرفاً، هم أصحاب المعاجم، وإذا سلّمنا لهؤلاء بمعرفة، فإنهم جمعوا اللغة من الشعر الجاهلي في أكثرها، أي إنها لغة الشعر لا لغة النثر، وإذا علمنا أنّ القرآن ليس بنثر أو شعر، وإنما قرآن، فإنه في حاجة إلى لغويين يفهمونه من خلاله، لا من خلال لغة الشعر الجاهلي.
أمام هذه المناقشة، بعد ما تقدم، السؤال هو: هل اللغة تتطوّر، هل اللغة تتغيّر؟ ويمكننا مناقشة مفهوم التطوّر وفق ما ينقدح في الأذهان، وإذا كان التطور يمر بالتغيّر، أو وفق دلالات قياسية جديدة، فما معنى التغيّر إذاً؟ هل التغيّر يؤدي إلى التطور أم العكس؟ وفي شيء من التأمّل، نجد أنّ التطور اللغوي يمر عبر ما يتغير من اللغة ويجد. والتغيّر في المفردات يؤدي، كما ذكرنا على سبيل التمثيل، مشتركات لفظية ومترادفات كانت أوصافاً تحولت إلى تعدّد، حيث يقول أستاذنا الدكتور علي الجندي عليه رحمة الله، إن استخدام الجاهليين لدلالات السيف المتعدّدة، جاءت بمعنى واحد، لكنه يشكل غنى على مستوى حاجة الشعر في مقاربة تلك المفردات، وما ينسجم منها مع الإيقاع. غير أنّ معنى التطور في اللغة هو أن تعبّر عن شيء بأشياء متعدّدة.
وللظروف التي تمر باللغة مساحة واسعة في إنماء دلالاتها وإنتاجها. ويشدد الرومانتيكيون على أنّ الاستعارة يجب أن تؤدي مؤدّى نفسياً في النفس، لا مجرد عقد مشابهة جوفاء. ولقد قامت البلاغة العربية على بلاغة المقام مقتضى الحال، وهو مراعاة ظرف المتلقي. وفي هذا المقال أحاول أن أبيّن كيف كان المرض ولّاداً للمعاني، ومؤثراً في اللغة. وقد جاءت دلالات المرض في القرآن متعدّدة، فمّما جاء في الكتاب العزيز مرتبطاً بالمرض، قوله تعالى: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً». وقال في جلّ من قال: «وإذا مرضت فهو يشفين». وقال تعالى: «ولا على المريض حرج». لكنّ دلالة المرض في الآية الكريمة «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً»، تشي بمفهوم آخر، ويشكّل المرض في هذا المستوى رهاباً معنوياً لدى المتلقي ممّا يعانيه أولئك من خصائص نفسية مذمومة.
ومما جاء في الشعر الجاهلي موظفاً المرض فنياً، قول طرفة: «إلى أن تحامتني العشيرة كلّها وأفردت إفراد البعير المعبد». والبعير المعبد هو الذي وضع عليه القار علاجاً عن الجرب، وقد عُزل عن باقي الجمال حتى لا يعديها بوبائه.
وقال أحد الشعراء: «لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفاً على تلك الصحيحة تجرب»، حيث تحوّلت دلالة المرض من جسمانية إلى معنوية في الشاهدين المتقدمين. وتبيّن في بيت طرفة الحالة النفسية التي يمر بها من يصاب بمرض من الوباء وانزعاجه وألمه.
ومن ألفاظ الحداثة المستخدمة بإيحاءات المرض، على سبيل التمثيل لا الحصر، «أنيميا الحب». وقد يعبَّر في أيام قادمة، عن أن المجتمع أصيب بهاجس الـ«كورونا»، ويقصد به الخمول والتفكّك والغياب. ولقد ألقى مرض السرطان ظلّه على اللغة، فجاءت مجازاً واسعاً، وللمحاولة استئصال الظواهر المؤدية، كأن يقال استئصال هذه الغدة السرطانية (الكيان الغاصب)، ولربما يعبر عن ظواهر جديدة بالـ«كورونا»، ويعنى بها الاجتياح القاتل.
وعلى سبيل إجمال القول يشكّل المرض، ملاذاً دافئاً تلوذ به اللغة وتنهل من معينه، لأنّه ظاهرة حسّاسة وخلّاقة في مدركات المتلقي في سرعة التأثير. وعليه، فإننا بعد ربما أسابيع، سنلتقي على غير موعد مع أعمال أدبية ومسكوكات لغوية مقتطعة من كلمة «كورونا»، باعتبارها مرضاً وبائياً سريع التأثير والانتشار، ومهدّداً اللحمة البشرية، ومحيلاً العالم إلى مدينة أشباح كبرى. وكما صادفتنا رواية «الحب في زمن الكوليرا»، وانشهرت قصيدة نازك الملائكة في الكوليرا، فإننا أمام إنتاج فني مختلف قد ينتشر انتشار المرض ذاته.

* كاتب وناقد بحريني