في تأريخه لولادة مدينة روما، حلّل الخطيب والسياسي الروماني شيشرون الأسباب التي دفعت روميليس، الشخصيّة الأسطورية التي يُنسب اليها تأسيس روما، لاختيار موقع المدينة: قريبةُ من البحر ولكنها ليست على الساحل، تقوم على تلالٍ متجاورةٍ يمرّ بينها نهر. حكم شيشرون، في القرن الأوّل قبل الميلاد، بأنّ روميليس قد انتقى موقعاً مثالياً و«استراتيجياً»، لا لسهولة الدفاع عنه فحسب، بل أيضاً لأنّ التّلال أمّنت مناخاً «صحيّاً» مرتفعاً، في محيطٍ يعجّ بالأوبئة. في الحقيقة، فإنّ مساحات واسعة من حوض المتوسّط (وبالأخصّ السهول الساحلية التي فيها مستنقعات ورطوبة) كان من الصّعب استيطانها بسبب خطر الأوبئة - وتحديداً الملاريا - أو لأن المدن فيها تبقى معرّضةً باستمرارٍ لاجتياح أمراضٍ تخلّف دماراً لا يقلّ عن فعل الحرب (دلتا النّيل، على سبيل المثال، ظلّت غير مأهولةٍ تقريباً لفترات تاريخية طويلة).
(لوحة عن وباء الطاعون للفنان الفرنسي جوس لييفيرنكس - القرن الخامس عشر)

المسألة هي أنّه كان من المفروض أنّنا قد «تخلّصنا» من هذه الأمراض المعدية، أو أقلّه تحكّمنا بها وبانتشارها. هذا الاعتقاد، الذي رسّخته تجربة القرن الفائت، هو ما جعل الكثيرين من بيننا يستهينون بخطر فيروس «كوفيد-19» حين ظهر، ويعتبرون أنّه حالة ذعرٍ طبيّ و«مبالغة»، ستنتهي خلال أسابيع وتمرّ. أنا شخصيّاً كنت أنتظر أن تنتهي مرحلة كورونا وأخبارها حتّى نعود الى «الأزمات الحقيقية» (موضوعٌ انت لا تعرف به ولا تملك فيه اختصاصاً وتدريباً، فبما يمكنك أن تساهم؟). في نصٍّ له عن موضوع الفيروس، انتقد آلان باديو اولئك الذين يبالغون في توجيه الأوامر وتحديد الواجبات والتعالي الأخلاقي في وقت الوباء. المسألة على المستوى الفردي بسيطة، يقول باديو، ولا شيء في وسعك أن تفعله خارج قواعد الحماية والعزل المعروفة، وأن تنتظر حتى ينحسر المرض (وهكذا تحمي نفسك وتحمي غيرك وتحمي الأطباء)، فلا ضرورة للهوس والمزايدة - ومن لا يقدر على «رفاهية الانعزال»، ويخرج ويعمل في هذا الجوّ، فهو لا يفعل ذلك عن اهمالٍ أو جشع، بل لأنّه مضطرٌّ ومتروكٌ ويخاطر بنفسه لأجل أهله.
لم أنتبه في الحقيقة الى جديّة الموضوع حتّى بدأت المتاجر والمطاعم تقفل من حولي، فأسلوب الحياة الجديد لم يضايقني: أنا لا أحتاج اصلاً الى سببٍ طبّي لكي أمارس «العزل الاجتماعي». ولأنّني أعرف حظّي، فقد عاملت نفسي سلفاً على افتراض أنّي مصابٌ بالفيروس، وكان همّي الأساسي ألّا أنقل العدوى الى كبارٍ في السنّ وأحمل وزرهم. من جهةٍ أخرى فإننا كنّا، طوال الأسابيع الماضية، نتخبط في حالةٍ من انعدام اليقين. نحن لا نعرف بعد طبيعة الفيروس ودورة انتشاره وخطره الحقيقي. والأرقام الأولية المتفاوتة من مختلف دول العالم - حول العدوى والانتشار ونسبة الوفيات - كانت تخبرنا عن الاختلاف بين منهجيات الاحصاء في هذه الدول، أكثر مما تخبرنا عن طبيعة المرض. فلا داعي، قبل أن نفهم «كوفيد-19» بالكامل، أن نفترض اسوأ السيناريوهات ونعلن انقراض البشريّة.

الوباء والحضارة
ولكنّ صديقاً أرسل لي محاضرة مثيرة عمرها أكثر من عشر سنوات لطبيبٍ وكاتبٍ أميركي (يبحث أساساً في مجال التغذية) اسمه مايكل غريغر، يتحدّث فيها عن الأمراض المعدية وتواتر ظهورها على المستوى العالمي في العقود الأخيرة. الفكرة هنا هي أنّ أزمة فيروس كورونا الجديد، على الأرجح، سوف تمرّ. ولن تكون نسبة الوفيّات كما افترضت اسوأ التوقّعات في البداية. وسيكون لدينا وقتٌ لاحصاء الكلفة البشرية والمادية للوباء. ولكن الاشكالية الحقيقية هي في الطابع «الصناعي» لهذا الفيروس، بمعنى أنّ العملية التي أنتجته (وهي، كما سنرى، بشريّة أساساً) ستفرز - ضرورةً - غيره في المستقبل. أي أنّ حالة الوباء والخوف والاقفال قد تصبح أمراً يجب أن نعتاد عليه.
يذكّر غريغر بأنّ أكثر الأوبئة والفيروسات المعدية لم تتطوّر بشكلٍ «عضوي» ضمن المجموعة البشريّة. بل إنّ أكثر هذه الأمراض لم تكن موجودةً على مدى التاريخ البشري وحتى العشرة آلاف عامٍ الأخيرة، حين ابتدأت بالظهور (ونحن موجودون على هذه الأرض منذ مئات آلاف السنين). هذه الأمراض كلّها، يقول غريغر، نشأت في الحيوانات (وكانت في الغالب حميدة وغير قاتلة في صيغتها الأصلية) ثمّ تطوّرت وانتقلت الى البشر حين روّضنا هذه الحيوانات وبدأنا بتربيتها والعيش بالقرب منها. هكذا أخذنا الانفلونزا من البطّ، والتيفوئيد من الدجاج، والزكام من الحصان الخ. هذه الأوبئة كانت «ثمن الحضارة» والمدنيّة بمعنى ما، ثمّ اكتشفنا لها لقاحات واكتسبت الناس مناعة ضدّ هذه الأمراض - «الطاعون الأنطوني»، الذي اكتسح غرب الامبراطورية الرومانية في القرن الثاني للميلاد وحصد الملايين، من بينهم الامبراطور يومها لوشيوس فيروس، كان على الأرجح الحصبة أو الجدري. ولكنّ هذه الأمراض لم تكن معروفة في أوروبا بعد، والناس لا يصابون بها في طفولتهم ويكتسبون مناعة منها، فكان تأثيرها قاتلاً (وهو ما تكرّر مع السكان الأصليين لأميركا عند قدوم الأوروبيين - مع أمراضهم وحيواناتهم - الى القارة الجديدة).
الدول «السلطوية» لجأت الى اجراءات الحدّ الأقصى لحماية مواطنيها في حين أن أنظمة ليبرالية اختارت الطريق الآخر


عودة هذه الأوبئة، وظهور فيروسات جديدة وخطيرة تنتشر بين البشر على نطاق عالمي، هي ظاهرة القرن الواحد والعشرين بحسب غريغر. ورغم أنّ بعض هذه الأمراض (مثل ايبولا وربما كوفيد-19) قد ظهرت عبر التواصل مع حيوانات برّيّة وغريبة عن البشر أو أكلها، فإنّ الخطر الحقيقي هو من الفيروسات التي نقوم باستيلادها في مزارع الحيوانات التي تنظّم على مستوى صناعي. الفكرة هي أنّ كل الوسائل التقليدية لتربية الحيوانات لا يمكن أن تجمع ملايين الطيور في مكانٍ واحدٍ مقفل. وهذه المزارع هي - بتعبير غريغر - عبارة عن «أوعية مختبرية» هائلة لاستيلاد هذه الفيروسات الجديدة، لديك عددٌ هائل من الأجساد المضيفة، وامكانية «حسابية» لكي يتطوّر الفيروس ويتحوّل لا يمكن أن تجدها في الطبيعة ولم يعرف التاريخ لها مثيلاً. الانفلونزا الاسبانية عام 1918 كانت تحذيراً مبكراً من خطر المزارع الحديثة، وقدرتها على توليد أوبئة جديدة ومميتة تنتقل الى الانسان (قضى في موجة الانفلونزا تلك، خلال اقل من سنة، عدد أكبر من ضحايا الحرب العالمية الأولى). هذا هو ثمن الانتاج الصناعي للحوم، ودخول اللحوم - بكثافة - الى العادات الغذائية لأغلب شعوب الأرض، وتحويل القطاع الزراعي بالكامل، أقله في الدول المنتجة الرئيسية من اميركا الى الصين، الى قطاعٍ رأسمالي يقوم على الاستغلال الكثيف.
في القرون الماضية، كانت الأمراض الجديدة تظهر غالباً حين تدخل المدنيّة الى أدغالٍ ومناطق نائية، ويحصل اتصالٌ مع أنواعٍ حيوانية جديدة، أو حين ينقل الناس الى بعضهم البعض هذه الأمراض مع الغزو والسفر والتجارة (الطّاعون الأسود، على ما يرجّح العديد من العلماء اليوم، انتقل الى البشر في البداية من نمطٍ من القوارض يعيش في سهوب آسيا، كان المغول يصطادونه ويأكلونه، وكان المرض معروفاً بينهم لفترة طويلة قبل أن يفتك بمدن آسيا واوروبا وينتشر فيها - بواسطة حيوانات أخرى كالذباب والجرذان). ولكنّ أكثر المخاطر التي عرفناها منذ بداية الألفية كانت تأتي من حظائر الطيور والخنازير - أو بواسطتها. يثبت غريغر بأن عدد الأمراض «الجديدة»، وعدد الناس الذين يموتون سنويا بسبب الأمراض المعدية، قد بدأ بالارتفاع بشكلٍ حادّ منذ أواسط السبعينيات.
«لحسن الحظّ»، لم تتحوّل أكثر هذه التحذيرات الى اوبئة قاتلة (انت لا يمكن أن تعرف، ما أن تكتشف المرض، مستوى خطورته والمدى الذي سيبلغه) وهذا مما شجّع الكثيرين على التراخي في بداية هذه الأزمة، اذ اعتقدوا أنها ستكون محدودةً كسابقاتها. ولكن السؤال الحقيقي هنا لا يقتصر على «كوفيد-19» والوضع الحالي، بل على أنّ «حالة الوباء» هذه قد تكون من الخصائص الدائمة في عالمنا. انت لا تعرف متى سيخرج المرض المعدي الجديد ولكن، طالما أننا نستعبد مليارات الحيوانات بالشكل الصناعي الحالي، فهي حسابياً مسألة محتّمة. ونحن هنا لا نتكلّم على وباءٍ جديدٍ يظهر كلّ بضعة قرون، بل كلّ بضع سنوات. الوباء هو المرض الذي يجمع بين خطر الإماتة والانتشار السّريع، وهذا ما يجعلنا نخشى على الدوام من تطوّر سلالات خطيرة من الانفلونزا تحديداً، بسبب طبيعتها المعدية. وبالنظر الى الطابع العشوائي للطفرات الجينية وتحوّلات الفيروسات، فأنت لا يمكن أن تتنبأ بموعد أو امكانية ظهور فيروسٌ جديد، يخرج من إحدى المزارع في اميركا أو من سوقٍ للحيوانات في الصين، ينتشر بسرعة الانفلونزا ويقتل مثل الايبولا، ولكنّ قانون الاحتمالات هنا ليس في صالحنا. الأساس هو أنّه لا يوجد «حلٌّ طبّي» لهذه المعضلة، بل إن الخيارات سياسية ومعدودة وواضحة: امّا أن نقبل بحالة الوباء ونتأقلم معها ونتحضّر باستمرارٍ للانتشار القادم، أو أن نبدّل عاداتنا الغذائية، أو أن نغيّر نمط الانتاج.

رأسمالية على الطريق السّريع
لم يمرّ في وعيي حدثٌ كبيرٌ وجلل (انهيار اقتصادي، أزمة دولية، كارثة طبيعية) الا وتخرج أصواتٌ ترى فيها علائم انهيار الرأسمالية، ونهاية العولمة، وأفول القوة الأميركية، حتى أصبح النقاش قديماً. حين تقول إن اميركا أصبحت في «طور الانهيار» والامبراطورية تسقط من حولنا وقد قضي الأمر، فمن الواجب أن تحدّد كم، تقريباً، يستغرق هذا الطّور: خمس سنوات؟ عشر سنوات؟ خمسون سنة؟ فقط لكي نفهم ماذا نقصد تحديداً بـ«الانهيار». من جهةٍ أخرى، يتمّ استغلال المرض في سوق الدعاية السياسية بطبيعة الحال، ويحاول الكثيرون استخلاص أحكامٍ عامّة على الدّول والأنظمة بحسب تعاملها مع المرض. هذا ليس الهدف هنا، خاصّةً وأنّ أكثر الفروقات في مفعول الوباء بين الدول تتعلّق فعلياً بقدراتها وثرائها وطبيعتها الديمغرافية والطبقية، وليس شكل الدستور (هذا يذكّر بعض الشيء بتقليدٍ لبناني، حين يجادل بعض المغتربين في السياسة الداخلية انطلاقاً من مقارنة «السويد أو فرنسا قدّمت لي كذا وكذا، ماذا قدم لي لبنان؟». المشكلة هي أنّه، بهذا المنطق، ماذا يجب أن يفعل من شاء حظه أن يولد في كينيا أو الهند؟ أن يحرق بلده؟ هي لن «تقدّم» له يوماً، مهما فعل، ما تعطيه فرنسا والسويد لمواطنيها). ولكن، في هذا السياق، لاحظ الزميل الأمجد سلامة مفارقةً طريفة: في أوّل بدايات المرض، يكون البيروقراطيون والحكّام أمام خيارٍ فعليّ بين التضحية بالاقتصاد أو التضحية بالأرواح. بمعنى أنه يمكنك أن «تبالغ» في الاجراءات وتقفل كلّ شيء فوراً، أو أن تراهن على مرور الموجة من دون تحمّل هذه الكلفة، وتأمل بأن لا يكون المرض خطيراَ وأن لا يموت «كثيرون». المفارقة هي أنّ العديد من الدول «السلطوية»، حين اتّضح حجم الوباء، اختارت فوراً اجراءات الحدّ الأقصى، في حين أن بعض الأنظمة الليبرالية - التي يفترض بها أن تكون الأكثر حرصاً على حياة المواطنين وآرائهم - اختارت الطريق الآخر (تأخرت واشنطن في وقف الرحلات الجوية من آسيا خوفاً على شركات الطيران، وأبقى حاكم ولاية فلوريدا على الشواطىء والمقاهي والفنادق مفتوحة، حتى بعد أن كان العالم كلّه يعرف بخطر الوباء، حتى لا يخسر الموسم السياحي؛ وانت في اميركا أصلاً لديك نظامُ صحّيّ مقسّم طبقياً، ان انتشر المرض بين الفقراء فلا وسيلة لرعايتهم، ولا أحد يعرف ما يجري في أحيائهم).

يجب ألّا ننخدع بالاجراءات الاستثنائية التي تقوم بها الحكومات وأن نفترض أنها بداية طورٍ تقدّميّ أو اشتراكي


الأمر الأساسي الذي يحذّر منه آلان باديو في نصّه هو ألّا ننخدع بالاجراءات الاستثنائية التي تقوم بها الحكومات، وإن كانت ذات طابعٍ توزيعي، وأن نفترض أنها بداية طورٍ تقدّميّ أو اشتراكي. الدّولة الرأسمالية المهيمنة، يكتب باديو، دائماً مستعدّة - حين تتعرّض الى تهديدٍ حقيقي - لاتخاذ قراراتٍ جذريّة، وفرض انضباطٍ قاسٍ على شركاتها، بل وتوزيع رواتب البطالة على النّاس، من أجل الحفاظ على وجودها. هذا قد حصل في السابق وهو لا يعني تغييراً في بنية السلطة أو طبيعتها. ولكن ما نقوله هنا هو أنّ أحداث اليوم تقوم بـ«تسخين» الرأسماليّة على المستوى العالمي، وهي أصلاً كانت في حالة من التسارع قبل الأزمة. ستكون هناك تشابهات ظاهرية كثيرة مع أزمة 2009 الماليّة، فالحلول التي ستخرج من واشنطن وباقي العواصم ستكون استنساخاً لها، ولكنّ كلّ مرحلةٍ تجري في سياقٍ مختلف وستكون لها مفاعيل جديدة.
باختصار وتبسيط، لتفادي ركود عالمي، ستقوم واشنطن مجدّداً بـ«خلق» المال وتوزيعه على الشركات بفوائد منخفضة أو معدومة، كما حصل عام 2009. على المستوى العملي، هذا يعني «حزمة» مالية تلقيها الحكومة الأميركية في السّوق بالترافق مع فتح قنوات التبادل المالي (swap) مع مصارف مركزية أخرى في اوروبا وآسيا - كضمانٍ لتدفّق الدولار اليها. ولكنّ حجم الحقنة المالية هذه المرة سيكون أكثر من تريليوني دولار - في اميركا وحدها - أي ضعف حزمة 2009 تقريباً، وقد تصل الى تريليونات اضافية في المستقبل. سيزداد معدّل الاستدانة على المستوى العالمي، ويزيد اللجوء الى الدّولار كما حصل من قبل ولكن، هل سيكون لمحاولات «الانعاش» الأثر ذاته؟ لا أحد يعرف بالضبط كيف ستتفاعل الأسواق مع محفّزات المصرف الفيديرالي هذه المرّة. هل ستستمرّ المعادلة «السحرية» التي تسمح لواشنطن بخلق المال وابقاء معدلات فائدة منخفضة في الوقت ذاته؟ كتحوّلات الفيروس، لا يمكن التنبّؤ بشكل السياق الجديد ومفاعيله السياسية. هل يمكن تكرار هذه اللعبة (مع تضاعف حجم الدّيون والمال الذي «يُطبع»، في كلّ دورة) الى الأبد؟ هذا هو السؤال الحقيقي.

خاتمة
نحن ما زلنا نعيش اليوم، بمعنى ما، مفاعيل أزمة عام 2009 وآثارها. على سبيل المثال، الانهيار المالي كان عاملاً أساسياً في اكتساح المتطرفين للحزب الجمهوري في اميركا (حركة «حفلة الشاي») بدلاً من أن يظلّوا أقليّة على هامشه، وهذا الحزب وقاعدته الجديدة أوصلا دونالد ترامب الى رئاسة العالم. لا ضرورة لتخيّل السيناريو الاسوأ، وانقطاع سلسلة التجارة الدولية، ونقص الغذاء والأساسيات في دولنا المستوردة. حتّى لو انحسر الوباء بعد اسبوعين، فإننا سنخرج الى عالمٍ ازدادت تناقضاته. سنجد سوق نفطٍ مختلفاً بالكامل، مع تراكمٍ لفائض أشهرٍ من الانتاج، وهذا سيغيّر شكل السياسة في منطقتنا كما يحصل مع كلّ هزةٍ نفطية. بينما يجري الحديث في الغرب عن تبعات العزل والحزمات الانقاذية ورواتب البطالة، تتحدّث التقارير الصحفية عن أن مئات الآلاف من فقراء المدن الهنديّة قد بدأوا بالخروج جماعياً من المدن، سائرين على أقدامهم أحياناً، في محاولةٍ للعودة الى الأرياف التي جاؤوا منها، وهم يقولون إن البقاء في المدن المقفلة يعني ببساطة أنّهم سيموتون من الجوع.
دويلة كردستان في العراق تمثّل نموذجاً على «الضحايا» التي تفرزها هذه الأزمات. كتب الباحث (الصهيوني) الأميركي مايكل نايتس ورقةً يطالب فيها واشنطن بانجاد حليفتها في العراق. حكومة كردستان أصلاً في عجزٍ مالي، فجاء انخفاض أسعار النفط ليضاعف أزمتها، والعراق، على أزمته ومشاكله، يمتلك عشرات المليارات كاحتياطات ماليّة فيما حكومة كردستان لا تملك احتياطاً يذكر. أكثر من ذلك، احزروا اين قرّر البرزاني ايداع حسابات حكومته؟ في لبنان، وفي «بنك ميد» تحديداً، أي انّهم لن يروا قرشاً من هذه الأموال مجدداً؛ والنتيجة هي أن حكومة كردستان العراق لم تعد قادرة حتى على دفع أتعاب الشركات النفطية الأجنبية التي تعمل لديها (هناك عناصر تشابه على أكثر من مستوى بين لبنان واقليم كردستان العراق، لا مجال لتفصيلها هنا؛ من نمط الارتباط بالنظام العالمي الى نموذج الاقتصاد والاستهلاك وصولاً الى تشابه النهايات - حتّى أنه قامت بين النخب في لبنان وكردستان صداقات وشراكات وأعمال، ازدهرت وتكاثرت بعد احتلال العراق، وهي اليوم على الأرجح تطوى وسط مرارة وخلافات).
الوباء لا يلغي مفاعيل القوّة، ولكنّه قد يعيد تشكيلها. الحرب لا زالت هي الواقع الأساسي بالنسبة الى الناس في اليمن، واميركا لا زالت تخطط لحملةٍ عسكرية في العراق، ولبنان لا ينتظر - كدول اوروبا - نهاية الوباء لكي يرجع الى «الوضع الطبيعي«. فالوضع الطبيعي فيه هو الأزمة والافلاس. وحين تكون من ابناء هذه البلاد الفقيرة، فلا معنى لأن تنتظر التغيير من مرض؛ جلّ ما في وسعك فعله في هذه الأثناء هو أن تحمي نفسك وأهلك ما استطعت، وأن تعمل وتفكّر من أجل بديلٍ يشبهك - وهنا السؤال الحقيقي.