نحن في نهاية نيسان عام 1948. ستشن عصابات الـ«هاغاناه» الصهيونية هجوماً على قرية وادي حنين، شأنها شأن جاراتها من القرى على طول الجانب الغربي للطريق الساحلي الممتد بين غزة ويافا. أهالي القرية الذين عملوا في قطاف الحمضيات لن يعودوا إليها بعد ذلك. بعض منازلهم سيتحوّل إلى مساكن للمستوطنين اليهود، وبعضها الآخر سيقام فوقه مستشفى للأمراض العقلية. مسجد القرية ستهدم مئذنته، ويُحوّل إلى كنيس «غؤلات إسرائيل» (خلاص إسرائيل). مصير كل شيء واضح. وحده قصر عمر أبو الافندي الشهير سيصبح مكاناً «غامضاً» يستخدمه جيش العدو الإسرائيلي في أنشطة مبهمة، ولن يُسمح لأحد بالاقتراب منه أو تصويره. كل الأراضي التي ابتلعتها الحركة الصهيونية من وادي حنين، منذ ما قبل النكبة بحوالى أربعة عقود، ستُدمج عام 1948 بمستعمرة «كفار أهارون»، لتصبح كلّ أراضي القرية المحتلة باسم مستوطنة «نس تسيونا» (معجزة صهيونية). تحت الاسم نفسه، في قصر الأفندي نفسه، سيُقام أهم معهد سرّي للأبحاث البيولوجية في كيان العدو، وسينتج أسلحة بيولوجية وغازات سامة تُستخدم في اغتيال كبار قادة العمل المقاوم.ورغم الغموض الذي لا يزال يكتنف طريقة موت القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وديع حداد (28 آذار 1978)، والذي عُزي إلى مرض مجهول فتك بجهازه المناعي، ثمة روايتان إسرائيليتان، على الأقل، تشيران بوضوح إلى أن الاغتيال جرى بواسطة سم لا تظهر أعراضه على الجسد مباشرة، طُوّر في مختبرات «نس تسيونا».
ففي كتاب «حساب مفتوح» (الصادر عام 2012) يشير الكاتب الإسرائيلي، أهارون كلاين، الى أن «الموساد» اغتال حداد بواسطة سم تمّ تطويره في المعهد، ودُسّ في أحد أنواع الشوكولاتة البليجيكية المفضّلة لدى حداد، وأرسل اليه بواسطة عميل عراقي يعمل لصالح الجهاز. أمّا في الرواية الثانية التي يذكرها كتاب «انهض وقاتل» الصادر قبل عامين، فيشير الكاتب رونين بريغمان الى أن عميل الموساد استبدل معجون الأسنان في بيت حداد بآخر فيه سم من إنتاج المعهد البيولوجي الإسرائيلي. وبين الشوكولاته ومعجون الأسنان، يبقى الثابت الوحيد في الروايتين أن خبراء المعهد طوّروا سمّاً استخدمه «الموساد» لقتل حداد.

ما هو معهد «نس تسيونا»؟
تتلخّص مهام المعهد التابع مباشرة لرئيس الوزراء في إعداد أبحاث ودراسات علميّة وأمنية في مجالات البيولوجيا والكيمياء والبيئة والمواضيع ذات الصلة بهذه العلوم. وقد فُرّغت لكل من هذه الحقول وحدة بحث علمي متخصصة. وهو أنشئ عام 1952 ليحلّ محل وحدتين عسكريتين عملتا في مجال البحث والتطوير الخاص بالسلاحين الكيميائي والبيولوجي. صاحب الفكرة هو من يعتبر «أبو المشروع النووي الاسرائيلي»، البروفسور دافيد آرنست برغمان الذي كان يشغل آنذاك منصب قائد سلاح العلوم ومستشار العلوم لرئيس الوزراء دافيد بن غوريون.
وبسبب دوره المهم على صعيد الأمن القومي وحساسيته، فإن أنشطة المعهد البيولوجي ظل يسودها مذذاك تعتيم وضبابية. ومع ذلك، بالإمكان الاستنتاج، من خلال المعلومات التي ترشح من الدوائر الاسرائيلية إلى وسائل الإعلام العبرية، رغم شُحّها، أن للمعهد مهمتين أساسيتين: الاولى هجومية وقائية تتمثل في تطوير أدوات قتالية بيولوجية وكيميائية لمهاجمة أعداء إسرائيل، والثانية تطوير قدرات دفاعية أمام هجمات كهذه. وإلى جانب مهامه العسكرية، يقوم المعهد بسلسلة أبحاث علمية وطبية مدنية تنشر في المجلات العلمية المحلية والعالمية. والمعهد، كما يُعرّف عن نفسه، يركز جهوده على دراسة الأمراض والأوبئة المعدية، ويُجري أبحاثاً حول أمراض لها علاقة بجراثيم من أنواع قاتلة وخطيرة. وقد أُلحقت به مكتبة ورقية وإلكترونية متخصّصة تشتمل على عشرات آلاف الكتب والدوريات العلمية من كل أنحاء العالم، وتشكل أحد أعمدة الدراسات والأبحاث التي تجريها نخبة من العلماء في اسرائيل في المجالات العلمية. ومن بين الخدمات المعروفة التي يُقدّمها المعهد: تزويد الوزارات الاسرائيلية، وفي مقدمها وزارة الأمن، ببحوث ودراسات وخدمات، إضافة الى الجيش الاميركي ووزارة الدفاع الاميركية.
المعهد الذي كلف التوصل الى لقاح طوّر سموماً لقتل وديع حداد والمبحوح


لزمن طويل، أحاطت إسرائيل القصر الذي سرقته من صاحبه الأفندي الفلسطيني شكري التاجي (أبو عمر الأفندي) وهجّرت عائلته إلى غزة، بكثير من السريّة. وحدها المصادفة ربما استطاعت كشف الأنشطة الخبيثة التي تحدث داخل أروقة العمران الجميل.
في كتابيه «إسرائيل والقنبلة» و«التابو الأخير»، يذكر الباحث الإسرائيلي آفنير كوهين أن «ألكس كونين الذي كان أستاذاً متخصصاً في الميكروبيولوجيا في الجامعة العبرية في القدس، جمع عدداً من الكيميائيين والبيولوجيين في وحدة بحث اختصّت بالسلاح البيولوجي. وقد انتقلت الوحدة من القدس إلى يافا ثم إلى أبو كبير في 18/2/1948. وكان الهدف من أنشطتها إنتاج سلاح كيميائي وبيولوجي، وتطوير أمراض وجراثيم وأوبئة، لاستخدامها في ميدان الحرب». وهذه الحقيقة أخفيت «بساتر من الأنشطة المدنية، مثل تطوير لقاحات وأدوية». ويشير كوهين إلى أنه بعد أكثر من أربعة عقود على بدء عمل المعهد، اطّلع الجمهور الإسرائيلي على أنشطة المعهد البيولوجي في «نس تسيونا»، بعد انكشاف قصة تجسّس ماركوس كلينبريغ، الذي عمل نائباً لمدير المعهد، لمصلحة الاتحاد السوفياتي، ومحاكمته بتهمة نقل معلومات سرية حول التطوّر الذي حققته إسرائيل في التوصل الى صنع أسلحة بيولوجية وكيميائية.
بعدها، كرّت سبحة «المصادفات» التي كشفت أنشطة «نس تسيونا»؛ ففي عام 1992 تحطمت طائرة شحن من طراز بوينغ 747 تابعة لشركة «إل-عال» الاسرائيلية فوق مبنيين سكنيين في إحدى ضواحي أمستردام في هولندا، ما تسبّب في مقتل ما لا يقل عن 43 شخصاً. الطائرة التي زُعم يومها أنها كانت تحمل فاكهة وعطوراً ومعدات حوسبة، بيّنت تحقيقات صحافية بعد ست سنوات أنها حملت 190 ليتراً من ثنائي ميثيل فوسفات الميثيل (DMMP) إضافة الى مادتي حمض الهيدروفلوريك وإيزوبروبانول اللتين تستخدمان في إنتاج غازات سامة من بينها السارين. كان عنوان الشحن «معهد البيولوجيا في نيس تسيونا»، فيما شحنت المواد من شركة Sultronic Chemical Company ، بنسلفانيا ، الولايات المتحدة. بعد انكشاف الأمر، ادّعت إسرائيل أن تلك المواد كانت لأغراض دفاعية.
والى ذلك، ثمة مجموعة من الاتهامات تلاحق المعهد نُشرت سابقاً في صحف إسرائيلية، من بينها محاولة اغتيال القيادي في «حماس» خالد مشعل، في 25 أيلول 1997، عبر حقنه بمادة سامة أُنتجت على أيدي خبراء المعهد، وكذلك اغتيال القيادي في الحركة محمود المبحوح في دبي، في 19 كانون الأول 2010، بعدما تعرض لصعق بتيار كهربائي وتمّ خنقه، من دون أن تظهر علامات عنف على جسده. وبعد تشريح جثته وجدت آثار سم في دمه.
اليوم، ينضم المعهد الذي عمل عقوداً في إنتاج أدوات القتل، إلى المعركة التي تخوضها المختبرات والمعاهد البيولوجية حول العالم لإنتاج لقاح ضد فيروس «كوفيد-19»، في محاولة لإنقاذ البشرية!
مطلع الشهر المنصرم، حين لم تتجاوز الإصابات بفيروس كورونا في إسرائيل بضع مئات، أوعز رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى خبراء المعهد بالعمل على إنتاج لقاح ضد الفيروس. ونقلت وسائل إعلام عبرية عن مصادر في جهاز الصحة أن «علماء المعهد حققوا مؤخراً اختراقات كبيرة في فهم الآلية البيولوجية وخصائص الفيروس، بما في ذلك القدرات التشخيصية والأجسام المضادة لعلاج المصابين بالفعل وتطوير اللقاحات». لكن الحماسة التي ربما كان الهدف منها «إبرة من التطمينات» تحت جلد الجمهور المذعور، أحبطتها وزارة الأمن، بتصريح قالت فيه إن «التطورات لا تزال قيد الفحص، ولا يمكن تسميتها اختراقات جديدة». وعلى هذه الخلفية، اعتبر الباحث المختص في شؤون الاستخبارات، يوسي ميلمان، أنه «يسود شعور بأن (رئيس الوزراء، بنيامين) نتنياهو، يسعى لتغطية قصوره في رصد الميزانيات اللازمة للجهاز الصحي فينظّم عرضاً مسرحياً كل مساء حول كورونا من دون أساس مهني... معهد نس تسيونا يعالج موضوع الأسلحة الكيميائية، وإسرائيل لديها إنجازات طبية كثيرة، لكنها ليست مشهورة في إنتاج اللقاحات الطبية، ولا توجد فيها معاهد أبحاث قادرة على إنتاج وتطوير لقاحات». واستدرك في مقالته التي نشرتها مؤخراً صحيفة «هآرتس»، أن ذلك «ليس لأنها (معاهد الأبحاث الاسرائيلية) لا تملك الخبرة، بل لأن الحكومة لا توفر لها الميزانيات الكافية لذلك».
رغم ذلك، الواضح إلى الآن أن المعهد انضم الى سباق إنتاج اللقاح، بعدما استحضر نسخاً من فيروس كورونا من اليابان وإيطاليا وبلدان أخرى. إلا أنه لا يقوم بهذه المهمة وحده، إذ تشاركه فيها شركة «دياديك» العالمية للتكنولوجيا الحيوية (مقرها الرئيسي في فلوريدا). وبحسب ما نشره موقع المعهد، فإنه ستجري دراسة حول قدرة الجين «سي 1»، الذي تصنّعه «دياديك»، على التعبير عن تسلسلات جينية وأهداف مُطوّرة من قبل المركز لتشكيل كلّ من اللقاح المرشّح (rVaccine)، والأجسام المضادة الأحادية التناسل، ما قد يسهم في محاربة تفشّي الفيروس. التعاون البحثي بين الشركة والمعهد يجمع بحسب الموقع الإلكتروني للأخير «بين القدرات العلميّة المميزة لمركز البحوث (نس تسيونا) ومرافق cGMP مع منصّة التعبير لجين سي 1 المملوكة والمسجّلة باسم شركة دياديك»، في إشارة إلى المنصّة المعروفة بقدرتها على اختصار زمن البحث، وتخفيف كلفة التصنيع وتحسين فعالية اللقاحات والأجسام المضادة أحادية التناسل.
المدير العام لمعهد «نس تسيونا» البروفيسور، شموئيل شابيرا، أوضح أن «نتنياهو أوكل الى المركز العمل بأقصى سرعة لتطوير لقاح وأجسام مضادة تحييدية لمواجهة الفيروس بسبب قدراته العلميّة المثبتة ونجاحاته السابقة في هذا المجال». في المحصلة، هل يحاول خبراء القتل في المعهد البيولوجي إنتاج لقاح بمساعدة شركة أميركية؟ أم أن سباق انتاج اللقاح قد يكون مجرد ستارة لتغطية جرائم أكثر خبثاً؟ على الأقل لا يبشر تاريخ المعهد باستنتاجات مختلفة!