كاتب هذا المقال عالم اجتماع وأنثروبولوجيا صحيّة، وخبير صحّةٍ عامة مقيم في سويسرا، انكبّ منذ أكثر من ثلاثين عاماً على دراسة أنظمة الرعاية الصحيّة وتطبيقها، وله مؤلفاتٌ مرجعية في مجال تكوين السلوك الصحي الجمعي، كما يُدرّس في عدد من الجامعات ومعاهد الدراسات العلياها قد قُدّر لنا (مجدداً) سماع عبارة: «نحن في حالة حرب!»، عبارةٌ قد تكون مستجدةً لأجيالٍ لم تعِ سوى زمن السلم. تقبع القارة العجوز تحت ما يحاكي حظر التجول، ناهيك عن تقييدٍ هائلٍ للحرياتِ الفردية وتصدّعٍ اقتصادي اجتماعي يشي بتبعاتٍ دراماتيكية. خطابات رؤساء الدول مشتعلة، وكذلك منافستهم، أيّهم يأتي بالتعبير الأبلغ: «إننا نتعرّض لهجوم، عدوّنا غير مرئي، ماكر، مخادع، متملّص، مروّع، لكننا سنتصدى له حتى النهاية!»، وغيرها من العبارات التي تبدو وكأنها مقتبسة من زمانٍ غير زماننا، لكن الواقع قد يكون أكثر ملامسةً للحضيض من كلّ ذلك: إننا نتعرّض لتلوثٍ واسع النطاق بفيروس هو محض تلاقحٍ خالصٍ بين إبداع الحياة والبلاهة البشرية. لقد اجتاز هذا المخلوق ببراعةٍ، تحدّي قفز الحواجز بين الكائنات الحية، وأطلق لنفسه عنان الانتشار بين البشر بمتعةٍ لا تعرفها سوى الكائنات ما دون المجهرية. لا، إنها ليست حرباً! ليس بوسعنا ــ بما نملكه اليوم من أدوات ــ هزيمة هذا المخلوق. بوسعنا أن نحتمي من أضراره وحسب، ثم يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نواجهه، الأمر الذي يتطلّب نوعاً من المقاربات، غير تلك المقتصرة على الشعارات المستوحاة من جبهات القتال.

هل هو محض مرض من أمراض الجهاز التنفسي؟
إن أمراض الجهاز التنفسي التي نختبرها كل عام، تتسبّب في أسوأ الأحوال بـ2,600,000 وفيةٍ على مستوى العالم. أما في حالة فيروس «كورونا»، فقد وصلنا في الشهر الرابع من تفشّي الوباء إلى 12,000 وفية. لو انسحب أسلوب التعاطي السياسي والإعلامي مع فيروس «كورونا» على أية جائحةٍ من جوائح الإنفلونزا الموسمية أو بعض الأمراض، كأمراض القلب والأوعية الدموية أو السرطان، لما كانت درجة الهلع من الإنفلونزا الموسمية بأقل من تلك التي نشهدها اليوم.
لقد بتنا على يقين اليوم، أن فيروس «كورونا» ليس خبيث العواقب، ما لم يُصِب مرضى يعانون من تعقيدات صحية ومرضية مسبقة. تُظهر بيانات حديثة أنّ 99% من الوفيات بتأثير فيروس «كورونا» يعانون من 1 ـــ 3 أمراض مزمنة، كارتفاع ضغط الدم وداء السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطانات وغيرها، كما أن متوسط عمر ضحايا المرض 79 سنة، وأن قلة قليلةً من الوفيات كانت بعمرٍ أقل من 65 عاماً، فَلِمَ لا نمتلك الشجاعة الكافية للقول: ليس الفيروس هو القاتل، بل هي الأمراض المزمنة التي تجعل من عدوى فيروس «كورونا» قاتلةً لبعض المرضى الذين يعانون منها، بينما يأتي حميداً على صحيحي البنية.

إحصائيات واحتمالات لا تُصدق
من كلاسيكيات علم الأوبئة، أنّ نسبة الحالات المكتشفة متناسبة مع مقياس التحرّي، فإذا كان التحرّي واسع النطاق، كان عدد الحالات المكتشفة كبيراً، والعكس صحيح، وفي حالة كورونا، فإنّ نمط التحرّي الحالي لا يعطينا مطلقاً صورةً ذات مصداقية عن الانتشار الحقيقي للفيروس وتفشيه. تشير التقديرات إلى أنّ عدد الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بفيروس «كورونا» أقلّ بكثير من العدد الفعلي للمصابين، وقد لا يدرك نصف هؤلاء أنهم مصابون أصلاً.
إذاً، ليس لدينا أدنى فكرة في هذه المرحلة عن المدى الحقيقي لانتشار الفيروس، إلّا أنّ الخبر السار يتجلّى في كون البيانات الحقيقية أقلّ بكثيرٍ ممّا يتم تداوله، خاصة بما يتعلق بمعدل المرضى ذوي المضاعفات وكذلك الوفيات، وأنّ المعدّل الحقيقي لقدرة الفيروس على الفتك قد لا يتجاوز 0,3%، أي ما هو أقل من 10% من الأرقام المعلنة من قِبل منظمة الصحة العالمية.

فالنتاين إيلييف ــ بلغاريا

تُظهر أحدث التقديرات أنه إلى اليوم، لا يتم الكشف سوى عن حالةٍ واحدة من أصل ثماني حالات، وهناك احتمال أن يكون الكشف لا يتخطّى الحالة من أصل 47 حالة، ويُعزى هذا التفاوت إلى التقنية المتّبعة في الكشف والتي تختلف بين بلد وآخر. فحتى 16 آذار/ مارس مثلاً، لم يكن قد تم الإبلاغ سوى عن 167,000 حالة على مستوى العالم، بينما تصل التقديرات إلى مليون حالة، إذاً نحن بعيدون كل البعد عن أي إحصاء دقيق في ضوء بيانات غير مكتملة.
بالمثل، فإن الإسقاطات التي تُجرى لتقدير عدد الوفيات التي يمكن أن يتسبّب بها هذا الوباء هي تقديراتٌ مشوّهة، إذ تستند إلى فرضياتٍ مصطنعة تأخذ بأقصى القيم الممكنة، ويجريها إحصائيون بعيدون كل البعد عن العمل الميداني في الأوساط السريرية، ما يُفضي إلى نتائج خيالية.
يتمترس بعض المتخصّصين، للأسف، خلف مصطلحات وتعابير مطاطة ذات وقع جسيم، لإضفاء شيء من المصداقية والطابع الرسمي على ما يقولون، ثمّ تأتي الصحافة فتنقل وتنشر عنهم، فيصل للقارئ والسامع انطباع دنوّ نهاية العالم، ثم ما يلبث هذا الانطباع أن يستحيل إلى قناعة في غير محلّها، لا بل وذات أثر مؤذٍ للغاية.

ماذا عن هذا العدد من الضحايا وهذا الاحتقان الشديد في أوساط الرعاية الطبية؟
هذا هو الجانب القاتم من الموضوع، إذ لولا وجود هذا العدد المرتفع من الوفيات والحالات الخطرة، لكان هذا الوباء غير ذي أهمية، ولكن اتّضح أنه يتسبب بمضاعفات مروعة رغم ندرتها. إن تسجيل حالات خطيرة ــ والتي تُقدر حالياً بـ15% ــ هو ما يبرّر عدم تسليمنا بمبدأ المناعة الجمعية، فبغياب الوقاية والعلاج للأشخاص المعرّضين لخطر الإصابة، يغدو خيار إطلاق العنان للفيروس بغاية الوصول للمناعة الجمعية، أمراً خطيراً للغاية، بل مرفوضاً أدبياً وأخلاقياً. أما في ما يتعلّق بالاحتقان الشديد في أقسام الطوارئ بسبب كثافة الحالات، وما يتسبّب به ذلك من ضغوطٍ كبيرة على طواقم الرعاية الطبية المتروكة ــ في أغلب الحالات ــ لمواجهة قدرها، ما هو إلا نتيجة حتمية لسياسة تخفيض النفقات التي تعيشها هذه الطواقم في العقدَين الأخيرَين من الزمن.
يختلف منظور العاملين في قطاع الصحة العامة عن أولئك العاملين في الأوساط السريرية من حيث المقياس، إذ إن كل وفيةٍ مبكرة تعدّ في الأوساط السريرية مأساةً تتقبلها طواقم الرعاية الطبية بصعوبةٍ بالغة، إذ يتم التعامل مع الحالات على أن لكلٍّ منها تفرّده وخصوصيته، أما في قطاع الصحة العامة فيتم جمع المعطيات لتحديد الخطوط الدقيقة لمسألةٍ جدليةٍ، ما يجعل من معدلات الوفاة للفئة العمرية أقل من 60 عاماً لا يتخطى 1.8% إذا أخذنا البيانات على المستوى العالمي، وهو معدل هامشيٌّ لا يبعث على القلق ــ لحسن الحظ ــ من وجهه النظر هذه.

مفارقة مصيرية
نحن عالقون بين فكَّي كمّاشة، تتجلّى في الضرر الكبير الذي يتسبّب به الفيروس للسواد الأعظم من الناس وخطورته الشديدة في حالاتٍ معيّنة. ما تمّ اعتماده على أرض الواقع من تدابير، بعيدٌ كل البعد عن الممارسة المثالية: إذ أن عدم التقصّي عن المرض كما يجب، والإبقاء على السكان في حالة حجر لوقف انتشار الفيروس، يعد الاستراتيجية الأكثر هشاشةً في مواجهة أي وباء، لا بل الاحتمال الأخير ــ وربما الأضعف ــ عندما تعجز كل الوسائل الأخرى عن السيطرة الفعّالة على الوباء، إذ أننا لا نقوم إلا بإبطاء انتشاره والحد من آثاره الارتدادية وحسب.

لماذا وصلنا إلى هنا؟
الجواب ببساطة هو أننا فشلنا في إيجاد الإجابات الصحيحة في الوقت المناسب. ويتجلّى مدى غرقنا في هذه الأزمة، من خلال افتقارنا للعدد اللازم من اختبارات التقصّي عن الإصابة بفيروس «كورونا»، ففي الوقت الذي جعلت فيه بلدان ككوريا وهونغ كونغ وتايوان وسنغافورة والصين من اختبارات تقصّي المرض أولويةً قصوى، تجد غالبية البلدان واقفةً موقف المتفرّج، عاجزة بسلبيتها عن ترتيب أبسط الأولويات التقنية.
استفادت الدول الآسيوية، المذكورة آنفاً، من الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص لرسم مسارات الانتقال الممكنة لدى كلّ حالة تثبت إيجابيتها، فبالاستعانة بالهواتف الذكية، يمكن إجراء جرد لتنقلات هذه الحالات والأشخاص الذين تواصلوا معهم في الـ48 ساعة التي سبقت ظهور الأعراض.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى التناقص الكبير في قدرة المشافي، خلال العقد الماضي، على استقبال الحالات، لدرجةٍ وجدنا أنفسنا فيها في حالة نقص في عدد أسرة العناية المركزة ومعدات الإنعاش، ناهيك عن كمية من المعدات الطبية الأساسية كالمعقّمات الكحولية والكمامات الواقية تكفي كامل طاقم الرعاية الطبية. وتشير الإحصاءات إلى أنّ البلدان الأكثر تضرّراً اليوم، هي تلك التي خفّضت في السنوات الأخيرة مستوى استيعاب وحدات العناية المركزة لديها.
لا يختلف الفيروس بين بلد وآخر، ما يختلف ببساطة هو خصائص الاستجابة الصحية له، وهو ما يصنع كل الفرق بين آلاف الوفيات في بعض البلدان، وحالات معدودة في بعضها الآخر. لا شك في أن لاستعمال الاستعارات العسكرية والحربية في توصيف ما نتعرّض له اليوم، بريقاً خاصاً، لكن لا بدّ من الاعتراف بالنقص المأساوي في استعدادنا لمواجهة هذا العدو.

هل هي نهاية اللعبة؟
ديديه راؤول خبير رائد على مستوى العالم في مجال الأمراض المُعدية، يترأس المشفى الجامعي المتوسطي للأمراض المُعدية في مدينة مرسيليا الفرنسية، ويُصنّف من بين أفضل 10 باحثين فرنسيين بحسب مجلة «نايتشر». نشر راؤول في 26 شباط/ فبراير مقطع فيديو على موقع «يوتيوب» كان له وقع مدوٍّ، إذ أكد أن فيروس «كورونا» قد وصل إلى نهاية اللعبة، مستنداً إلى نتائج تجربةٍ سريريةٍ صينيةٍ انتشرت مؤخراً، تُظهر تأثير «هيدروكسي كلوروكين» في تثبيط الفيروس خلال أيام معدودة لدى المرضى المصابين به.
«هيدروكسي كلوروكين» مركّب دوائي طُرح في الأسواق لأول مرة عام 1955، ويستخدم على نطاقٍ واسعٍ كمضادٍ للملاريا، كما أن جميع المسافرين الذين يقصدون البلدان الاستوائية يوصف لهم «الكلوروكين» للوقاية من الملاريا. لـ«الكلوروكين» فعاليةٌ علاجيةٌ قويةٌ ضدّ معظم الفيروسات التاجية، بما في ذلك «السارس»، لذا وجد راؤول في الدراسة السريرية الصينية تثبيتاً لجدوى استخدام «الكلوروكين» لعلاج الإصابة بفيروس «كورونا» المستجد (كوفيد ــ 19). نتيجةً لهذه الدراسة، تم اعتماد «الكلوروكين» في التوصيات العلاجية ضد فيروس «كورونا» في الصين وكوريا.
رغم الضجة الإعلامية والطعن الذي واجهه من بعض المتخصصين، حصل الدكتور راؤول على تصريح لإجراء دراسةٍ سريريةٍ لاختبار «الكلوروكين» على 24 مريضاً في قسمه، كما تمّت دعوته ليكون أحد أعضاء اللجنة متعدّدة الاختصاصات والمكوّنة من 11 خبيراً شكلتها الحكومة الفرنسية في آذار/مارس، للإفادة من خبراتهم لإدارة الوضع الصحي المستجد في ظل انتشار فيروس «كورونا».
بترقّبٍ وحذرٍ شديدَين، تمّ التعامل مع نتائج هذه الدراسة، وهذا أمرٌ بديهيٌ، بل مطلوبٌ عندما يتعلّق الأمر بمواد دوائية يُعتقد أنها واعدة، فيغدو من الضروري بمكان عدم استعجال الأمور قبل أن يتمّ تأكيد الفرضية أو نفيها، فالعِلم ليس سحراً أو عِرافة، بل ملاحظةٌ واختبار ومن ثم تحقق.
جاءت المعطيات المنتظرة في 16 آذار/ مارس، لتكشف نتائج علاجية مذهلة. كان البحث ذا منهجيةٍ متينةٍ، دُرِست فيه القدرة على إبطال نقل الفيروس لدى المرضى الذين تلقّوا «الكلوروكين» بالمقارنة مع مرضى لم يتلقوا هذا العلاج. أظهرت النتائج أن المرضى الذين لم يتلقوا «هيدروكسي كلوروكين» ظلوا حاملين للفيروس بنسبة 90%، لمدةٍ وصلت إلى ستة أيام، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 25% لدى إعطاء «الكلوروكين».
إضافة إلى ذلك، أتت توصيات الدراسة بأن يضم العلاج، إضافة إلى «الكلوروكين»، مضاداً حيوياً (الأزيتروميسين) يُوصف في حالة التهابات الجهاز التنفسي فيروسية المنشأ، إذ إن خطورتها تكمن في احتمال تطورها إلى اعتلالات رئوية، وأظهر الجمع بين هذين الدواءين انخفاضاً مذهلاً في النسب المئوية للحالات الإيجابية. وبالرغم من أنّ «الأزيتروميسين» ليس مضاداً فيروسياً بحدّ ذاته، إلا أنه بات مثبتاً أنه يقلّل من خطر الإصابة بالعدوى الفيروسية، ناهيك عن فعاليته على عدد كبير من الفيروسات.

ماذا عن حَمل الفيروس ونقله؟
في غضون ذلك، كشفت دراسةٌ نشرتها مجلة «لانسيه» المُحَكمة في 11 آذار/ مارس، بياناتٍ جديدة مهمة: تتراوح المدة بين بداية العدوى ونهايتها عشرين يوماً وسطياً، تنخفض هذا الفترة إلى 4 ــ 6 أيام عند إعطاء «هيدروكسي كلوروكين» مصحوباً بـ«الأزيتروميسين».
هذا الانخفاض الشديد، لا يعطي أملاً بعلاج الحالات الحرجة فحسب، بل يُقصّر المدة الزمنية التي يكون فيها المصاب مُعدياً، ما يفتح آفاقاً واسعةً للحد من انتشار الفيروس. قد يخال المرء أن هذا أفضل خبر سمعناه منذ مدة، وأنّ العلماء كما السلطات الرسمية، سيرحّبون به أشدّ ترحيب. لكن مهلاً... لم يكن هذا تماماً ما حصل، إذ أن ردود الفعل التي علت مؤخراً كانت تنحو باتجاه شيطنة هذه الاكتشافات الأخيرة.
ما لا يمكن إنكاره أنّ أيّاً من الدراسات السريرية، سواءٌ تلك التي أُجريت في الصين أو في مرسيليا، لا يحقّق معايير البحث العلمي. إن إعادة التجارب من قبل فرق بحثية أخرى، أمرٌ مطلوبٌ وضروري، ناهيك عن الحاجة الملحّة لإجراء دراسة عشوائية غَفِلة، أي لا يعرف خلالها الفريق الطبي ولا المريض أي علاج يتلقى، وهو ما يعد من أمتن منهجيات التثبت في البحوث العلمية.
لكننا اليوم في حالة طوارئ. «الكلوروكين» أحد أكثر الأدوية التي أُجريَت عليها دراساتٌ سابقاً، كما يُجيد الطاقم الطبي استخدامها خاصةً في مركز الدكتور راؤول، ما يمَكّننا من الاستناد إلى خبرتهم المتينة في هذا الشأن، إذ يغدو التلطّي وراء حجّة عدم اتّباع منهجية البحث العلمي أصولاً عندما يتعلق الأمر بدواءٍ يحفظُه المتخصصون عن ظهر قلب، حُجةً واهية أخلاقياً، فما بالك إن كان هذا الدواء قد أظهر فعاليةً لا يمكن غض الطرف عنها على بقية أفراد عائلة الفيروسات التاجية، فضلاً عن دراستين جديدتين أكدتا فعاليته على هذا النسخة المستجدة من الفيروس، في وقتٍ باتت فيه أرواح البشر على المحك!
وكصفعةٍ في وجه من كانوا يرَون في أزمة «كورونا» فرصةً لاستكمال أمجادهم العلمية، وحصولهم على جائزة «نوبل» لتطويرهم علاجاً أو لقاحاً جديدَين، أثبت الدكتور راؤول إمكانية استخدام عقارٍ متوفرٍ في متناول أيدي الجميع منذ زمن طويل لعلاج مرضٍ مستجد، ناهيك عن أنه وفر عشرات المليارات من الدولارات التي كانت ستُصرف على تطوير علاجاتٍ جديدة في وقتٍ تكاد لا تتجاوز فيه كلفة «الكلوروكين» شيئاً يُذكر.

تحيةُ تقديرٍ لطواقم الرعاية الصحية
منذ تفاقم الأزمة، دأب المواطنون يومياً على تقديم تحيةٍ رمزية لطواقم الرعاية الصحية، وإظهار الدعم والتقدير لجهودهم في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشونها. هو تعبيرٌ جميلٌ عن التضامن يستحقونه بالفعل لمهنيتهم البارزة، وكل ما أظهروه من إيثار والتزام بجوهر دورهم في التصدي لهذه المعاناة الشديدة، وهذا الخطر المستجد تحت ظروفٍ في غاية الصعوبة.
لكن مع الأسف، يخبو بريق الأجرام السماوية متى اقتربنا منها أكثر... إذ إن البحوث الطبية كما السلطات المسؤولة عنها، ليست بمنأى عن التلاعب والاحتيال، أو خيانة الأمانة وإساءة الاستخدام، ناهيك عن جدالات حادة تحكمها الأنا.
فها هو الدكتور آلان دوركادونيه يطعن، على إحدى القنوات الفرنسية، نتائج دراسات الدكتور راؤول، لافتاً إلى أن الاستنتاجات العلمية تُنشَر عادةً في مجلاتٍ مُحَكّمة من قِبل مجلس من الاختصاصيين، وليس عبر فيديوات «يوتيوب»، فلم يشفع للدكتور راؤول أنّه صاحب العدد الأعلى من المنشورات العلمية في مجاله، أو تأكيده أن ما صرح عنه من اكتشاف في الفيديو قد تم إرساله على شكل مقالٍ إلى مجلة مُحَكمة، ما يؤكد السوية العالية للمادة التي قدمها.
يتمترس بعض المتخصّصين للأسف خلف مصطلحات وتعابير مطاطة ذات وقع جسيم، لإضفاء شيء من المصداقية والطابع الرسمي على ما يقولون


ويلاحظ في رسائل الصحافة الفرنسية، التركيز بشكل خاص على خطر الجرعات الزائدة من «الكلوروكين»، والذي يغدو سامّاً إذا تجاوزت جرعته غرامَين يومياً، في حال عدم وجود اعتلالٍ جسدي مرافق. لقد نحا الصينيون، خلال تجاربهم، نحو إعطاء جرعتين يومياً تبلغ كلٌ منهما 500 مليغرام، أما الدكتور راؤول وفريقه فقد رأوا في هذا الجرعة إفراطاً يمكن تجنّبه، مكتفين في تجاربهم بجرعةٍ يوميةٍ تعادل 600 مليغرام، ما يجعل الحُجة التي تستخدمها الصحافة المحلية في ما يخص خطورة الجرعة الزائدة حجةً فارغة المضمون، ودعونا لا ننسى أنّ ما من فريقٍ بحثي على مستوى العالم أَعرف بمفاتيح هذا المُركب الكيميائي وخصائصه أكثر من فريق الدكتور راؤول، كيف لا وهو صاحب فكرة استخدامه ضد الجراثيم داخل الخلوية، والتي تحاكي بخاصيتها هذه الفيروسات. لذا، يمكن القول إن لمشفى مرسيليا خبرة سريرية وعلاجية لا تعادلها أُخرى، في ما يخص استخدام هذا المركب الدوائي. والحُجة هذه كمن يقول لفريقٍ من أطباء الأعصاب إن «الباراسيتامول» دواءٌ سام إن استُخدِم بشكلٍ خاطئ، فحريٌّ بكم أن تنصرفوا عن وصفه في حالات الصداع!
حتى إن أحد الصحافيين الفرنسيين ذهب أبعد من الحديث عن خطورة الجرعات الزائدة من «الكلوروكين»، إلى الحديث عن سمّيته، في وقتٍ رُفِعَ فيهِ أيُ إبهامٍ عن مخاطر هذا العلاج، ما دفع الدكتور راؤول إلى الرد عليه مستشهداً بدراسةٍ تعود إلى عام 2011، تم فيها وصف «هيدروكسي كلوروكين» لـ755 امرأة حاملاً. فما الغاية من إثارة موضوع المخاطر المرتبطة بالاستخدام المطوّل «للكلوروكين» ــ أي ما يتجاوز عاماً كاملاً من الاستخدام اليومي ــ في وقتٍ لا يتطلب فيه العلاج المقترح أكثر من سبعة أيامٍ وسطياً، ناهيك عن أن مركز الدكتور راؤول في مرسيليا لا تنقصه الخبرة في ما يخص الوصفات الطبية طويلة المدى، والتي قد تصل استثنائياً إلى عامين في إطار العلاج من بعض أنواع البكتيريا داخل الخلوية. فحريٌّ بنا أن نبتعد عن الادّعاءات القائمة على حججٍ واهية، فذلك لا يزيد الأمور إلا تعقيداً.
يُصرّ آخرون على أنّ التجارب السريرية وحدها لا تُمكِّننا من الوصول إلى استنتاجات قطعيةٍ ونهائية، وهو أمرٌ لا يمكن إنكاره بالمطلق، لكنّه لا ينطبق تماماً على حالتنا هذه لامتلاك الخبراء معرفةً وثيقة بهذا المُركب الدوائي. إذاً، تتجلّى الاستراتيجية الوحيدة المنطقية في التقصي واسع النطاق عن الحالات المرضية، ومن ثم حجر الحالات الإيجابية وعلاجها. وما من صعوبة في تصنيع لوازم اختبار التقصي، فهو تفاعلٌ بسيطٌ ومتوفر للجميع يُعرف باسم PCR. العقدة، إذاً، لا تكمن في التقنية المستخدمة وقدرتها التشخيصية، بقدر ما أنها في خطة تنظيم هذه العملية، وسنلمس وقتها حتماً امتثالاً اجتماعياً أكبر لأن الأمر متعلّق بحياة شعوب بحالها.

ماذا لو لم يكن هذا العلاج على قَدرِ الآمال المعلّقة عليه؟
تبقى هذه الفرضية واردةً بالطبع. لذلك، هناك أدوية أُخرى قيد الاختبار حالياً ضمن بحث دولي واسع النطاق، يتم فيه اختبار التأثير التشاركي لعدد من مضادات الفيروسات. فإن أتت نتيجة هذه الدراسات واعدة، سنكون قد قطعنا شوطاً لا يُستهان به على طريق الخروج من هذه الحالة المتأزّمة، وعندها فقط نستطيع أن ننعم بإعلان نهاية اللعبة، لعبة «كوفيد ــ 19»، ويحقّ لنا وقتها أن نفتخر بما تعلّمناه في طريقنا للوصول إلى هذه اللحظة!

كلمة أخيرة
إنّ نظام رعايتنا الصحية ليس مثالياً، كما أنّ بعض أدواته قد أكل عليها الدهر وشرب، لذا دعُونا نتحلّى بالصبر وحس المسؤولية والالتزام في هذه الأزمة، وألّا ننجر وراء الشائعات أو المعلومات غير المُثبتة. فمتى فرغنا من هذه الأزمة، التفتنا إلى إجراء مراجعةٍ تحليلية ونقدية شاملة لطريقة تعاطينا مع هذه الأزمة الصحية، علّنا نجد تفسيراً وحلّاً لعجزنا عن الاستجابة السريعة والصحيحة، وأن نُسخّر لذلك قدراتنا الصناعية والعلمية إلى حدها الأقصى. ودعونا لا ننسى أن ما نشهده اليوم، قد لا يكون سوى نموذج مصغّر لما يمكن أن نتعرّض له مستقبلاً من أوبئة، وهو ما لا يريده أحدٌ منّا.

* عن مدوّنة http://jdmichel.blog.tdg.ch
مقتطفات من مقالة مطوّلة اختارتها وعرّبتها ألمى أبو سمرة (باحثة في مجال التطوير الدوائي)

* عالم فرنسي في إنثروبولوجيا الصحّة