تطالعنا كل يوم سيناريوات واقتراحات متعدّدة بشأن إنقاذ العام الدراسي، ومصير الامتحانات الرسمية بعد التخلّص من تفشّي وباء كورونا. سيناريوات متشعبة تضعنا أمام ضبابية، ممزوجة بين إمكانية التطبيق واستحالته، بين الواقع والافتراض، بين القدرة والعجز، بين النيات الطيبة ومصيدة تجار العلم.ثمة من يطالب بتكثيف الدروس، وآخر بزيادة أيام التدريس الأسبوعية، وثالث يصرّ على التدريس في الصيف، ورابع يصرّ على إجراء الامتحانات الرسمية ولو في كانون الأول، وخامس يشعرك بأنّ أزمة الشهادة الرسمية تفوق بكثير أزمة البلد الاقتصادية والمعيشية والسياسية. سيناريوات نشعر أمامها وكأننا ننتظر إشارة الصفر لبدء تطبيق وتنفيذ ما سيقرر.
مضمون السيناريوات يعطي انطباعا وكأن الطلاب وأهاليهم والمعلمين ليسوا سوى روبوتات مبرمجة، عليهم تلقي الأوامر والتنفيذ. وأن عيون الناس في خضمّ الانهيار الاقتصادي والوجع المعيشي والألم النفسي، شاخصة فقط للّحظة التي سيطلع علينا من يبشّرنا بالسيناريو الفائز بالمرتبة الأولى من السيناريوات الموضوعة على الطاولة.
ثمة أسئلة تستحق أن توجّه الى واضعي السيناريوات: هل تدركون جيداً أننا، عملياً، أمام مشكلة كبيرة، وأن اتخاذ القرار يتطلّب قبل كل هذا، جمع المعلومات الميدانية اللازمة، ووضع بدائل من الحلول، ثم اختيار البديل الأمثل. القرارات الحقيقية تكون، مثلاً، بعد أخذ رأي الطلاب لناحية مدى استعدادهم لخوض غمار استحقاق الامتحانات الرسمية، وآلية استكمال العام الدراسي. امنحوا التلامذة حق الممارسة الديموقراطية والتربية المواطنية بالمشاركة في اتخاذ القرار. استمعوا جيداً إلى هواجسهم وتحسّسوا مخاوفهم. هؤلاء هم أصحاب العلاقة الحقيقيون. أوعزوا الى المدارس لاستطلاع آرائهم وآراء المعلمين.
ألا يكفي الطلاب ما يعانونه من ضغوط التعليم عن بعد، في ظل ضعف الإمكانات المتوافرة لديهم؟ لماذا نمجّد الوسيلة (الامتحانات والشهادة) ونهمّش الغاية (التلامذة)؟ ألم تنصّ أهداف المناهج على أن يكون المتعلم محور العمل التعليمي؟
لا شك أن منسوب التفاؤل ارتفع كثيراً في الأيام الأخيرة ويبعث على الأمل بشأن اقتراب ثبات عدّاد الحالات المصابة من الصفر. لكن هذا لا يعني أن نقع في مكر العاطفة والانفعال. المرحلة تحتاج إلى كثير من التأنّي والحذر. غالبية علماء الأوبئة والأمراض الجرثومية يشددون على أن التحاق التلامذة بالمدارس يجب أن يكون آخر تدبير تقوم به الدول، بعد التأكد من انتهاء تفشّي الوباء، وآخر من يلتزم بالحجر المنزلي تفادياً لأي خطأ قد يعيد الأمور الى النقطة الصفر.
يخطئ من يظن أن إعطاء الإفادات يضرب الشهادة الرسمية وينتقص من قيمة العمل التربوي


ولو سلّمنا جدلاً بأن الوباء ذهب الي غير رجعة في منتصف أيار كما تتوقع الجهات الصحية الرسمية، وأن الوضع النفسي للتلامذة كان مؤاتياً للتعلم، وقررنا استئناف التعليم المدرسي مباشرة، هل أعطينا أنفسنا وقتاً كافياً للإجابة عن بعض التساؤلات التي تتخبّط في أذهان الطلاب وأهاليهم؟كيف يمكن أن يتحقق استكمال صحيح للعام الدراسي بفعالية في وقت قصير؟ ومن أين سيبدأ هذا الاستكمال؟ هل ستتم إعادة الشروحات التي أرسلت للطلاب خلال تعلّمهم عن بعد؟ وما هي الآلية التي ستتّبع لإنجاز الأهداف التعليمية المتبقية؟ وهل هناك خطة تعليمية للسير بها؟ أم ستترك الأمور على عاتق كل مدرسة ومزاج كل مدير؟
ثمة تساؤلات أخرى يوجّهها تربويون الى أصحاب القرار في حال استئناف التدريس في منتصف أيار أو أول حزيران؟ من يضمن عدم تسرّب حالة واحدة مصابة الى مدرسة ما؟ هل تتصورون حجم الكارثة التي ستنتج حينذاك؟ ومن يتحمل المسؤولية؟ ومن قال إن أهالي الطلاب سيبادرون الى إرسال أولادهم قبل أن تبدّد كل هواجسهم، ويضمنوا مجتمعاً خالياً من الوباء؟ من قال إن التلامذة سيكونون في وضع نفسي ملائم لاكتساب التعلّم في ظل الخوف الدائم من عدوى ما؟ هل تعتقدون أن التلامذه سيكونون في صحة نفسية مستقرة تمنحهم القدرة على استغلال واستثمار طاقاتهم بالمستوى المطلوب؟ ألم تسبّب تدابير الحجر المنزلي آثاراً نفسية ولو بمستويات مختلفة على التلاميذ؟ وماذا عن حجم الضغوط التي سيتعرض لها الأساتذة من الإدارات والتلامذة لاستكمال منهاج في وقت قياسي ربما، وهم الذين لم يبخلوا بجهد ووقت في سبيل إنجاح تجربة التعليم عن بعد، وبشتى الوسائل الممكنة وتحت ظروف ضاغطة وصلت إلى حدود عدم تقاضيهم لرواتبهم.
تتسابق التساؤلات في الذهن. فهل المدارس مجهّزة بمعدات التكييف والتبريد، وخصوصاً في المناطق الساحلية؟ وهل يمتلك واضعو السيناريوات الاقتناع الراسخ بأن الاهالي بغالبيتهم غير مستعدين للمخاطرة بأولادهم؟
نصف أهداف المنهاج أنجز فقط الى حين التعطيل القسري كمعدل وسطي خلال ٥ أشهر. بعض المدارس لم تتمكن من تدريس ثلث المنهاج نتيجة ظروف التعطيل التي رافقت انتفاضة 17 تشرين الأول. إذاً، كيف يمكن للمدارس أن تستكمل ما تبقّى من أهداف تعليمية قد تزيد على النصف خلال شهر ونصف شهر أو شهرين؟ هل تتصورون السرعة التي سيتم فيها تقديم التعليم في غياب خطة تعليمية جاهزة؟ هل سيكون المتعلمون قادرين على اكتساب أهداف تعلمية تحت وطأة الضغط؟ وَهل سيكون للتلميذ الفرصة على المشاركة وطرح الأسئلة، أم سنكون مضطرّين إلى استخدام التطرف في التلقين على مبدأ أن الضرورات تجيز المحظورات؟
أما فخامة الامتحانات الرسمية، والتي لا ننكر أنها أبرز أشكال سيادة الدولة في مجال التعليم، فقد أصبحت في نظر البعض غاية ممجدة وليست وسيلة أو ادأة تقييم تعليمية؟ لماذا الإصرار عند البعض على إجراء هذه الامتحانات حتى ولو في كانون الأول؟ ألا يحتاج ذلك إلى تنسيق الأمر مع الجامعات؟ ولمصلحة من هذا الإصرار؟ لماذا نتبنّى خياراً واحداً على أن الامتحانات الرسمية هي المعيار الوحيد الذي نحتكم إليه للحكم على واقعنا التربوي والتعليمي؟ هذا غير صحيح تماماً. نتائجنا على مستوى الاختبارات الدولية في «تيمس» و«بيزا» خير شاهد على ما نعانيه من هشاشة وتردّ في مناهجنا التعليمية. الكل يدرك أن هذه الامتحانات بشكلها الحالي وجه من وجوه السلطوية في التربية، لأنها لا تحوز شروط التقويم العلمي الصحيح.
يخطئ من يظن أن إعطاء الإفادات للتلامذة يضرب الشهادة الرسمية وينتقص من قيمة العمل التربوي في لبنان. الإفادة في الظروف الاستثنائية ربما هي حاجة ملحّة، وليست أمراً معيباً. إنها ضرورة في وقت عصيب. التجربة السابقة في إعطاء الإفادات لم تؤثّر على الشهادة في السنوات التي تلت، ولا على سمعة لبنان التعليمية. لما لا نسير على هدي بعض الدول في إلغاء الامتحانات الرسمية هذا العام؟ لقد حان الوقت لأن نخضع للغة المنطق بالتفكير في إعطاء إفادات نجاح لهم، وأن نستمع إلى صوتهم، ونزيل عن كاهلهم ثقل الضغط النفسي والقلق ورهاب الامتحان الذي يعيشونه. ولتكن لاحقاً امتحانات الدخول الى الجامعات هي الحكم في العبور الى التخصصات الجامعية التي يرغبون فيها.
في ضوء ما نعيشه، ولنصل جميعاً الى شاطئ الامان التربوي والنفسي والمجتمعي والصحي، يتحتم تأجيل استكمال السنة الدراسية إلى أول أيلول، على أن يستكمل المنهاج المتبقي خلال شهرَي أيلول وتشرين الأول، وتجرى امتحانات الفصل الأخير في النصف الأول من تشرين الثاني لتحسب نتائجه مع النتائج السابقة للتلاميذ في الفصل الأول، ومن ثم تعطى النتائج على أن تبدأ السنة الدراسية المقبلة في النصف الثاني من تشرين الثاني بعد ترشيق عدد من الدروس والمحاور، بشكل استثنائي، ولجميع الصفوف التعليمية في كل المراحل، على أن يندرج ذلك ضمن خطة علمية متكاملة يضعها المركز التربوي للبحوث والإنماء بالتعاون مع وزارة التربية.
*باحث تربوي