فرضت أزمة «كورونا» على التعليم، بكل مستوياته، استخدام التقنيات الرقمية لاستكمال العام الدراسي. لا بأس في ذلك إذا كان سيجعل المسيرة التربوية مستمرة ويبقي الطلاب على تواصل مع محيطهم التربوي. وكان أفضل لو أن القائمين على التربية قاموا بعملهم مسبقاً، وكانت لديهم رؤية للتحديث بناءً على فهم الواقع ومحاولة التأقلم معه.لكن «التعليم عن بعد» يصبح خبط عشواء وبعيداً عن التعليم عندما لا تكون المؤسسات التربوية مجهزة، ولا تكون البنية التحتية مناسبة، ولا الكادر التعليمي ملمّاً بالتقنيات والمهارات في هذا المجال، ولا الأهل على تماس مع ثقافة التقنيات، ولا يكون تدريس المعلوماتية في المدارس والجامعات مستخدماً ومنظّماً وممنهجاً، ولا المنهج التربوي محدّثاً ومتناسباً مع «التعليم الرقمي» و«التعليم عن بعد».
انتبه العاملون في المجال التربوي إلى أهمية التقنيات الرقمية في التعليم، ولكن ليس في الوقت المناسب. وعلى غرار الشعارات التي ترفع في الانتخابات، أُطلقت حملات «التعليم عن بعد»، وإعادة بناء المناهج التعليمية بما يتناسب معه. إلا أن الواقع الرقمي في العالم يتطلب أكثر من الخطابات والمؤتمرات. وعندما نقول إنّ التنمية البشرية تربوياً غير مؤهلة للتعليم عن بعد، نعني بذلك أن تدريس الرقمنة وتعليم التقنيات وإرساء ثقافة التكنولوجيا في لبنان وفي كل المجتمعات العربية، غير موجود. طبعاً، يملك الجميع أجهزة وحواسيب، لكن المهم ليس اقتناء الأدوات، بل استخدامها بشكل مثمر.
عدم معرفة كيفية الاستفادة من التقنيات وسوء استخدامها يتعلقان بأمور عدة: عدم إعداد الأساتذة بشكل منهجي على استخدام التقنيات من خلال دورات تدريبية، أو من خلال تأهيلهم الجامعي. وهذا ما لم يحصل. وإذا وجدت الحصص التربوية لتأهيل الأساتذة، تكون هذه الحصص هامشية ولا تدخل ضمن نطاق المنهاج الجامعي كمقررات إجبارية. حتى إن من يدرّسون هذه المقررات، وإن كانوا مؤهّلين تقنياً، غير متخصصين في تدريس المعلوماتية المعتمدة في التعليم. ومن العراقيل عدم تحديث المناهج التربوية، فتحضير الدروس للمطبوع يختلف عن التحضير للرقمي وللحاسوب وللألواح التفاعلية، كما أن الثقافة الرقمية لم تدخل المجتمعات العربية، وبقيت الرقمنة وتطبيقاتها مجرد أكسسوار.
«التعليم عن بعد» يحتاج أيضاً إلى مكتبات رقمية غير موجودة، ومصادر معلومات غير متوافرة، ومحتوى رقمي عربي لا يزال ضعيفاً. كل هذا غير مؤمّن بشكل منهجي ومنظّم. أما المبادرات من هنا وهناك، فلا تؤسّس لمجتمع تساهم فيه التربية في التنمية. المبادرات خارج المؤسسات مفيدة، لكنها لا تشكل قاعدة يُرتكز عليها في بناء مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة.
باختصار، عندما لا نكون جاهزين للتعامل مع الأزمات تصبح الأزمة صعبة وكارثية عندما نعالجها بأفكار وآراء جاهزة مسبقاً!
جيد أن يكون التعليم عن بعد برز كحلّ في ظل هذه الأزمة بعدما كان موضع تخبط معرفي. فالتعليم هو دائماً في مرحلة إعادة تفكير، كون العملية التربوية تتعلق بدراسة سلوكية الأفراد، وهو من الدراسات الصعبة التي لا تؤدي دائماً إلى بناء استراتيجيات ثابتة. التفكير في المواد التعليمية، وخصوصاً بالنسبة إلى التقنيات الرقمية، هو التفكير أولاً في الإنسان وفي علاقته بمحيطه ثانياً، حالياً هو الفضاء الرقمي. لذلك، علينا بناء أسس معرفية تربوية جديدة تتناسب مع هذا التغير في التربية، والإجابة عن سؤال: ما هي الفلسفة التربوية الجديدة التي ستطرح، وهل يناسب ذلك السلطة التربوية، وهل يجب إعادة النظر في السلطة نفسها؟
على صعيد العالم العربي ولبنان، بات الجميع متخصصاً في ذلك إلى درجة أنهم يطلقون «نظريات» من دون أي ركائز فعلية ودراسات على الأصعدة القانونية والاقتصادية والمعرفية والتربوية والاجتماعية. وإذا كان جيداً اللجوء إلى «التعليم عن بعد» خلال الأزمة للحفاظ على السياق التعليمي العام، فلا يعني ذلك التسرع في الركون إلى هذا الحلّ كحلّ دائم، إذ يتطلب هذا النوع من التعليم استراتيجيات متّصلة بالتقييم والامتحانات. ويستوجب ذلك بناء المادة التعليمية لتكون تفاعلية، ما يسمح بإعداد الأسئلة على طريقة open book، ما يعني تغيير طرق التعليم وتأهيل الأساتذة وإطلاق ورشة على مستوى الكادر التعليمي والإداري.
من المفترض إعادة النظر في مستلزمات التعليم عن بعد، بدءاً من البنية التحتية العامة، وصولاً إلى تبنّي دراسات حول التغيّرات السلوكية للمتعلم. ويجب المراقبة والمحاسبة في بلد ينخره الفساد على الأصعدة كافة، بما فيه الفساد التربوي من ترفيع في المدارس والجامعات، إلى بيع الشهادات، وإعطاء ماسترات وشهادات دكتوراه من بعض الجامعات الخاصة بالتزوير والانتحال العلمي من دون مراجعة علمية. والسؤال: هل الوضع القانوني والقضائي يسمح بملاحقة هذه الحالات في بلد الطائفية والمحسوبيات على مستوى الوزارات من جهة، وعلى مستوى الجامعات الطائفية من جهة ثانية؟ وهل تستطيع لجنة المعادلات أن لا تعادل شهادة ماستر أو دكتوراه لطالب من جامعة مدعومة من جمعية دينية؟
الفساد التربوي له تأثير أكبر على المجتمعات من الفساد السياسي والاقتصادي، وقبل البدء بالتحول نحو التعليم عن بعد والتشريع له، من المفترض التحول الى بلد لا تكون مرجعياته الدينية تمسك بقراراته. عندئذ يمكن إطلاق ورشة عمل على كل المستويات لتشريع شهادات التعليم عن بعد في لبنان، ثم تشريع شهادات التعليم عن بعد من باقي الدول، لأنه باستطاعة أي شخص أن يتسجّل عن بعد في بعض الجامعات في أميركا، وفي بعض البلدان الاشتراكية السابقة، وفي أوروبا، ويكفي أن يدفع لكي يحصل على شهادة. فكيف ستتأكد لجان المعادلات من هذه الشهادات؟
هذا لا يلغي الارتكاز على التعليم عن بعد لبعض المقررات وفي بعض الحالات، كما لا يلغي التعليم الإلكتروني، أي التعليم الذي يستخدم تطبيقات في التعليم والتعلم، بل يجب تطوير هذه التطبيقات وأن تصبح معتمدة وأن يُبنى على التجربة التي حصلت في لبنان والعالم من أجل الوصول في المستقبل إلى بعض الثوابت المساعدة في العملية التربوية، ولكن من دون تسرع وشعارات نظرية لا ترتكز على أي أسس فعلية سوى بعض الدراسات التي لا تؤهّلها أن تشكل معياراً يُعتمد عليه.
وللإشارة، يوجد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية مركز علوم اللغة والتواصل كان سبّاقاً في إدخال المعلوماتية في التعليم كمادة أساسية، كما يحصل في كليات الآداب في الجامعات عادة، بهدف تعليم الطلاب التقنيات المعلوماتية التي تؤهّلهم لتصميم برمجيات التعليم عن بعد وتصميم برمجيات التعليم الإلكترونية.
يرتكز العالم التربوي الحديث على الفهم والتفسير والنقد، وهذا يحتاج إضافة الى معرفة القراءة والكتابة والحساب والمعلوماتية، إلى معرفة المنطق الذي لم يعد يدرّس في العالم العربي إلا نادراً كما هي الحال لمقرر الفلسفة. فالعالم المستقبلي لمن يجيد الابتكار وليس التكرار.
*أستاذ جامعي