خسر الخندق الغميق موظّف مرفأ بيروت علي اسماعيل. تلك كانت الخسارة الكبرى. بعدها تهبط المصائب بـ«المفرّق». عددٌ من الجرحى، أضرارٌ ماديّة، تكسيرٌ طاول المحال والشرفات والمباني، وهلعٌ أصابَ السكان الذين يُطلّ شارعهم على وسط البلد. هذه الإطلالة، كلّفت أبناء الخندق الكثير، منذ ما قبل انفجار 4 آب؛ فصَلتهم عن مدينة أُعيد إعمارها دونهم. خبت النقمة في قلوبهم، على مرّ السنوات، وهم يشاهدون المباني ترتفع أمام أعينهم، فيما بيوت الخندق متصدّعة، والأثريّة الجميلة منها فارغة بلا تأهيل. هذا، كان قبل الانفجار الذي دمّر العاصمة. بعده، لم تختفِ النقمة، بل زادت تجاه بلديّة بيروت التي لطالما حجبت عن الخندق والبسطة وزقاق البلاط، وما حولها من «ضواحٍ» للعاصمة، أي التفاتة.أهل الخندق خارجون عن خريطة البلديّة، هذا تحصيلٌ صار وراءهم. بعد الكارثة، لم تصل إليهم الهيئة العليا للإغاثة ولجان الدولة. الجمعيّات غير الحكوميّة المعدودة التي تطرق الأبواب، تدفعهم لطرح أسئلة عدة: «لماذا يسجّلون أرقام هواتفنا، وكل المعلومات عن شققنا، يجمعون ملفّاتنا ويعدوننا بمساعدات، من دون أن نستلم إيصالاً... هل سيعودون فعلاً؟ هل سيقبضون بالنيابة عنا؟». في الخندق ومحيطِه، بالرغم من الفقر المدقع، لا خيمَ مساعدات عاجلة ولا إغاثة طارئة؛ بل زياراتٌ معدودة لـ«فوضى» المنظّمات، بهدف «مسح» الأضرار والتعويض «المؤجّل».
لا خيمَ مساعدات عاجلة ولا إغاثة طارئة بل زياراتٌ معدودة لـ«فوضى» المنظّمات


يستعيد أهل الخندق اللحظات الأولى لانفجار المرفأ، «الهزّة الأرضيّة» التي اعتقدوا أنها أصابت الأبنية وأوقعت الزجاج وحطّمت الأبواب. «سادت حالة من الذعر، ركضنا وسط الشوارع»، يقول إبن حيّ الزهراوي، ويضيف «بس الحمدلله، أحسن من غيرنا، أحسن من تحت!». هذا «التحت» قصد به وسط البلد، «تحت مش إلنا»، قالها، لكن «نزلت دمعتنا على ما شاهدناه». على «الموتوسيكلات»، هرع شباب الخندق لنجدة المصابين والجرحى. تلك الآلة بعجلتين، التي تلازم الصِّيت الذائع عنهم. صيتٌ يثيره أهل الخندق، حتى لو لم تبادِرهم بالسؤال عنه، «لدينا كفاءات وقدّمنا تضحيات، من ينزلون لا يمثّلون جميع السكان، ولا يمكن اختصار الخندق بعدد من الشباب»، يقول أبو عيسى، صاحب محلّ الخضار. يضيف «نمر» الثلاثينيّ «نحن مش متل ما بيشوفونا!». كيف يراهم الآخر؟ سؤال يصلح لسجالٍ طويل قد لا يُنصفهم بما يخصّ الاعتداءات المتكرّرة على المتظاهرين، لكن بعد «تركتهم» جرّاء الإنفجار، صار للجوابِ «دليلٌ ملموس» على أنهم «منبوذون».
علاقة الخندق ومحيطه بالعاصمة شيء، وعلاقتهما بالمرفأ شيء آخر. «لدينا الكثير من العمال المياومين في المرفأ، ولو أن الانفجار وقع خلال دوام العمل، لكانت خسارتنا أكبر». في الشارع الرئيسي، حيث المحال التجاريّة عادت للعمل بعد «ترقيع» سريع للأبواب، تقول صاحبة محلّ الألبسة أصيبت في الإنفجار، وتضيف «طرت لجوّا، أقفل باب المحل وعلقت في الداخل مع جروح في يدي، المحلّ تضرّر، ولم تبقَ نوافذ صالحة في البيت». جارها الخيّاط، قذفه عصف الانفجار إلى داخل محلّه، تضرّر منزله كذلك، وبالمختصر «الله يفتري على من افترى علينا!»، وما يجب إصلاحه لا يقتصر على الماديّات بل «طبقة السياسيّين كلّها بدها قَبع وتغيير». محلّ السمانة متضرّر أيضاً، وكان صاحبه لحظة الانفجار على شرفة منزله القريب «شعرت أن الشرفة هوت بي! شو بدي قول أكتر، الحمدلله». على بعد شارعين، تضرّرت دار للنشر يملكها أبو حسن، الثمانيني الذي عاش الحرب وقذائفها المتساقطة قرب محلّه... لكنّ هذه المرّة نقمته مختلفة، ويصبّها على «الحدّادين والقزّازين... إجتهم الرزقة، وصار بدهن كوميسيون (عمولة) ليجوا يصلحوا! بعد ما شرّفوا».

(مروان طحطح)

في الخندق الغميق، تدلّك الصورة الكبيرة للشهيد علي اسماعيل إلى منزل أهله. منزل يختصر تاريخ الشارع، ونزاعه المستمرّ مع الحياة ولقمة العيش، ومع الأبنية الجديدة. يشبه منازل الحارات القديمة، عتيقٌ متصدّعٌ ومنفردٌ من طبقة واحدة على جنب الطريق. يدعوك أبو يوسف، والد علي، إلى الداخل، هو لا يريد الحديث إلى الإعلام بل يريد الفضفضة عن خسارته ولدٍ في ريعان الشباب. في الداخل، يتّشح أهل البيت بالسواد، حزناً على إبن الـ33 عاماً غير المكتملة، «يُكملها في تشرين الأول». تقطع الغصّة كلمات أبو يوسف، ثمّ تقطعها مجدّداً «سحبة السيجارة» التي لا تفارق يده. الرجل النحيل مفجوع على «ابني علي لي كان مجبور يشتغل دوامين بالبور، لإعالة عائلته وطفله الذي يبلغ سنتين». في ذلك اليوم اللعين، «كان دوام علي من الثانية بعد الظهر حتى العاشرة ليلاً، كان البحث عنه قاتلاً، في اليوم التالي تبلّغنا بأنه في أحد المستشفيات». غُمّست لقمة علي بالدم. «يا ريت فراقه صعب، الصعب بيهون! هيدا علي الآدمي، لي بيساعد الكلّ، ومين ما بيعرفه بيبكي عليه»، يقول أبو يوسف، شارحاً عن «بسمة لا تفارق وجه علي، تماماً مثل صورته». صورةٌ ستربط الخندق الغميق بذكرى 4 آب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا