رغم قِدم الوجوه التي فيه، وتسمّرها في أمكنتها لوقتٍ طويل، لا يمكن القول إنه متحف. ذلك رغم أن أهل البرلمان يُتحفون الجميع دائماً فإنه ليس متحفاً. عادةً يخرج زائر المتحف بانطباعات حميميّة من المكان، زاخراً بحنينٍ سلبي أو ايجابي، إذ إن سمة الماضي الأساسيّة هي الماضي.
والحنين مرادف للماضي قطعاً. ولكن ميزة البرلمان اللبناني أنه متحف للمستقبل. وعلى هذا الأساس لا حنين إليه ولا أمل منه. ورغم كل شيء، حاصرته الوجوه الجديدة التي حبسها رجال الأمن خارجه. الناس، عينة من الناس، الذين لديهم ما يقولونه، ويبحثون بلا كلل عن آذان مؤهلة للاستماع إلى أصواتهم. هؤلاء الذين يعرفون أن بيروت هي المتحف الكبير لأشباح الحرب الأهليّة، وها هي الأخيرة الآن، تستقر في البرلمان، في «جلسة» روتينيّة. في حديقة جبران خليل جبران، التي صودف، بطريقةٍ ما، أنها محطة أبديّة لخيمة أهالي المفقودين، اعتصموا للمطالبة بقانون لتجريم العنف الأسري ضد المرأة، وجاء الردّ عليهم مشابهاً للردود القديمة على أهالي المفقودين في الحرب. أقرّ قانون السيدة رندة بري، حرم رئيس المجلس المصون، ولم يقرّ القانون المبتغى. القانون الذي أقر في الداخل لا يجرّم الاغتصاب الزوجي، وقد جرت مباركته بإشراف من المؤسسة الدينيّة، حارسة النظام البطريركي والساهرة عليه، وتالياً على راحة الجالسين على المقاعد الوثيرة في المجلس.
لم يرغب النواب بتعكير
صفو جلستهم بأصوات
المياومين
لا جديد في الساحة البائسة. يرنو الحمام إلى الأرض، يغط الحمام، يطير الحمام. في العادة يمر رجال مع كاميرات معلّقة في رقابهم، يصورّون حداثة غبيّة، ومدينة سليبة بعمارة «كولونيالية». في العادة يقترب المعتصمون إلى ساحة النجمة، لكن النواب كانوا أمس في «مزاجٍ سيئ» ولم يرغبوا في وصول السيدات المعتصمات إلى المبنى، أو أن تعكر أصوات المياومين صفو النقاشات الضخمة في الداخل. وهي في الغالب نقاشات «فولكلوريّة»، تنشد الوصول إلى تسويات على نسق الـ«فاست فوود». حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي منكبان على تفصيل «حوار» موازٍ لحوار «الأشاوس» في مجلس النواب. التيار الوطني الحرّ يحلم بعودة جنراله إلى «قصر الشعب». حزب الله منشغل بإحصاء منسوب «الانتصارات» الأخيرة، بين القصير ويبرود وكسب. القوات اللبنانيّة ضدّ العنف الأسري، لكن جعجع مرشح «جدي فوق العادة للرئاسة». تيار المستقبل، لا نعرف إن كان هذا الأخير تياراً قائماً، وإن كان رأي النائب سعد الدين الحريري «المدني»، خلال احدى اطلالته التلفزيونيّة، ينسحب على أنبياء تياره كالنائب خالد الضاهر، والقبضايات منهم، كمعين المرعبي. لا أحد يمكنه أن يعرف شيئاً، سوى أن القانون أقر مشوهاً، وليس كما طالبت به جمعيّة «كفى» وناضلت لأجله. لا يعني ذلك أن نضالهن انتهى، فأرواح السابقات حلقت حول هديل الحمام الأليف. أرواحهن: رولا يعقوب. منال عاصي. آمنة ورقيّة والكثيرات.
«جلسة» مجلس النواب، ومعنى اسمها بالعربيّة (بين قوسين) يشي بنوعٍ من الألفة بين أصحابها، ويوحي بطابع عائلي فيما بينهم، هي تكرار ممل لكارثة مملة، مفادها أن عالم الاجتماع الفرنسي، ريمون آرون، كان على حق. من خلاصات آرون الجوهريّة في قراءاته للمجتمع والعلاقة بين مكوناته مع السلطة، أن «الرأي العام غبي». والأخير، على الأرجح، كان نائماً في العاشرة صباحاً. إنه كثير وقطعاً أكثر من 128 شخصاً، وأكبر من 6 أو 7 أحزاب، إنه ضخم جداً وهائل، لكنه كان نائماً. «جلسة» في مجلس النواب، أمس، كالعادة، بينما يصرخ «المياومون» في آخر الشارع المغلق، وتعتصم النساء في الحديقة. «جلسة»، والتعبير بالعربيّة هنا يساعد قليلاً، تقريباً، على تخيّل المشهد في الداخل. تنقص القهوة العربيّة لتكمل المعنى، حيث يتلهى الجالسون على الكراس الوثيرة بخطابات لم تعد مسليّة اطلاقاً. والحال أن ميزة «الجلسات» عادةً هي تبادل أطراف الحديث. وبالفعل، فيما كان «المياومون يعتصمون على بوابة شارع المقاهي، حيث منعهم الجيش، الوطني طبعاً، من الدخول»، تقرر خلال النقاش في اقتراح قانون مياومي الكهرباء، «تكليف لجنة قوامها النواب: محمد قباني، علي بزي، ابراهيم كنعان، سامي الجميل وجورج عدوان، اضافة الى وزير العدل أشرف ريفي». ونقلت «الوكالة الوطنيّة للإعلام»، أن هذه اللجنة تقررت، بعدما تبيّن أن ثمة «اختلاف في وجهات النظر». أما بالنسبة إلى المعتصمات من أجل سلسلة حقوقهن الطويلة في الحديقة، فقد اتفق الجميع في المجلس الشهير، من دون أن يعلنوا ذلك، على صوابية النظام البطريركي. لا جديد. بعد اجهاض قانون «العنف الأسري» وتحويله إلى دمية بيد «الهيئات الشرعيّة»، والأحزاب والجماعات «المجاهدة في سبيل الله»، لا جديد في جميع القضايا البشريّة تحت سقف البرلمان، المرتفع لدرجة مهولة، بحيث يبدو الجالسون تحته، إذا ألقى ناظر من فوق عينه، صغاراً، صغاراً للغاية.

يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen