إنه صيف 1984. قوات الاحتلال الإسرائيلي تنتشر في صيدا، كما في مدن الجنوب وقراه، بحذر كبير. العمليات تتصاعد والمقاومة باتت تتّخذ أشكالاً جديدة، والريبة والشك يسيطران على سلوك ضباط العدو وعملائه.شقيقتي الكبرى، سلمى، كانت تربطها صلة «سرية» بزوجها الحالي الذي كان مطارَداً من قوات الاحتلال لمشاركته في إيصال سلاح إلى مقاومين. وهو، بعد فراره من المدينة، بقي على تواصل مع سلمى الناشطة في العمل العام من موقعها كمهندسة. لكن «الكابتن سامي»، الاسم الذي اتّخذه العدو لعدد من ضباط مخابراته، أراد التحقيق معها، فأرسل أحد العملاء من أبناء المدينة إلى منزلنا في حي البعاصيري لإحضارها إلى مركز التحقيق.
رفض والدي أن تذهب شقيقتي برفقة العميل، وأصرّ على أن يتمّ توقيفها في مكان عام. وفي باله مكان يشهد فيه أعيان من المدينة على اعتقال صبية. لبس ثيابه، ومشى معها، وسار خلفهما العميل، وصولاً إلى مستشفى الدكتور غسان حمود الذي كان في الانتظار ومعه رئيس البلدية أحمد الكلش. هناك، قال الوالد: خذوا سلمى وأعيدوها إلى هنا! وهو لم يكن ليعدّل في أصل قرار الاحتلال اعتقال شقيقتي، ولا في ما سيجري معها من قِبل المحقّقين. لكنه كان يقول لضباط الاحتلال: رغم كلّ ما قمتم به، فإن في هذه المدينة عنواناً لا يمكن تجاوزه في معالجة الأمور. تأخذون ابنتي رهينة بشهادة أهل ثقة المدينة، وما أقوم به هو تحميلكم مسؤولية إضافية... وهو ما صاغه الدكتور غسان والأستاذ أحمد في معرض تحذيرهما ضابط الاحتلال: إذا لم تعُد سلمى إلى هنا سريعاً، سيكون لنا كلام آخر!
هذه المحطة إشارة إلى المكانة الخاصة التي احتلّها مستشفى حمود في العقل الجمعي لقاطني المدينة. إذ كان أكثر من مركز طبي. وإنما «المقر البديل» للقيادة السياسية والاجتماعية القادرة على رعاية الناس في مواجهة ممارسات الاحتلال. وهي قيادة لم تكن معنيّة بما يجري خارج الأسوار. فكان عقلها وقلبها مع المقاومين الذين كان بعض جرحاهم يُعالَجون سرّاً في المركز رغم أن العدو زرع فيه عملاء لجمع معلومات عن المقاومين، وعمّا يخطط له أبناء المدينة من تحركات ضد الاحتلال، خصوصاً أن النقاشات التي كانت تجري في مكتب الدكتور غسان، كانت تتطرّق إلى أمور كثيرة في ظل تصاعد ضغوط العدو لإقفال المدينة أو لإثارة ناسها ضد المقاومة.
قبل هذا الزمن بعقد على الأقل، كان المركز الطبي لا يزال منشأة أصغر من مستشفى وأكبر من عيادة. لكن كان للموقع معنى آخر لدى أهل المدينة. فالآتي من خارجها كان يسمع عبارات لا يعرف معناها بدقة، مثل «نلتقي عند غسان حمود» أو «خذني من عند غسان حمود» أو «لاقيني حد غسان حمود». الزائر لم يكن يعرف هل المقصود، هنا، مكان أو شخص أو شيء آخر. كرّس الموقع نفسه معلماً حفر من دون أن يحتاج إلى قرار بلدي أو مرسوم حكومي. ارتبطت الساحة والمفترق ونقطة الإشارة باسم غسان حمود، الطبيب الذي حقّق حلم أبيه، فدرس المهنة التي كانت تمثّل رُقيّاً اجتماعيّاً وإنسانيّاً عالياً. تعلّم غسان حمود وتخرّج وعاد إلى بلدته – مدينته، وكبر في زمن كان الطبيب فيه أشبه بنبي.
المشكلة أن النافذين من الأثرياء الجدد لم يقوموا بأيّ جهد جديّ لإنقاذ الصرح


مرّت على هذا الصرح صنوف كثيرة من الناس: زوار وسياسيون ورجال دين، طلاب وتجار وأطباء وممرضون ومرضى. واحتل المكان واسم طبيبه مكانة في ذاكرة الناس جميعاً، وصار مصدر أمان ليس من الناحية الصحيّة فحسب. فمن كان يحصل على توصية الدكتور غسان، تُفتح له أبواب المدينة وأبعد منها أيضاً. ومن تتقطّع به السبل، يمكنه الحصول من المركز على مساعدة توصله بمرجعيات وإدارات ووظائف وقوى ومؤسسات. وكان الجميع يشعر بمسؤولية عن استمرار هذا المكان وتطوره، وهو الذي لم نسمع عن مريض مات على أبوابه... حتى إنه قد يكون صعباً، على كثيرين، فهم، أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تجد في لبنان مرفقاً صحياً واجتماعياً تشعر بالأمان فيه مثل مستشفى غسان حمود. وما قيل عن استثمار المنظمة فيه ليس سوى بعض من ردّ الجميل، وهو لم يكن على شكل هبة أصلاً، ولو حذت القوى السياسية والجمعيات والمؤسسات التي تعاقبت على إدارة المدينة حذو المنظمة، لما تعرّض المركز لمشاكل مالية فاقمت من أزمته يوماً بعد يوم، وترافقت مع مرض صاحبه، حتى إحالته «وقفاً» يستدعي الشفقة.
المشكلة أن النافذين من الأثرياء الجدد لم يقوموا بأيّ جهد جديّ لإنقاذ الصرح. ولم يسمحوا لأبناء المدينة حتى في خلق إطار شعبيّ عام يتيح المحافظة عليه ولو مع إدارة جديدة. لذا، لم يكن من مجال لغير صفقة مهنية – تجارية تحفظ الإرث الإنساني لهذا المكان، وتعيد الاعتبار إليه... وليس على النافذين، اليوم، سوى التوقف عن النميمة السيئة، وإفساح المجال للإنقاذ والتطوير، لأنه، مهما فعل التافهون، فإن كل طرقات صيدا ستظلّ تقود فقط إلى مستشفى غسان حمود!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا