عصيّة هي الامتحانات الرسمية في بلادنا. لا تتنازل عن كبريائها أمام أصعب الأزمات صحياً واقتصادياً وتربوياً، وكأن العلامة التي تعطيها على شهادة ورقية منذ أن أبصر استحقاقها النور عام 1929، تكاد تكون حكماً مبرماً لا يمكن الاعتراض عليه. وهي تكاد تكون الوحيدة القادرة على توحيد كل الاطياف التربوية في سلطة القرار حول ضرورة إجرائها في أحلك ظروف الوطن، رغم اتساع فجوة الخلافات والصراعات، لأنها وليدة نظام تربوي وسياسي، نرجسي وسادي، توّاق الى ممارسة سلطة المراقبة العقوبة الضابطة عبر اختبارات معرفية على تلامذة مقهورين ومهملين.في خضم التوتر والظروف المعيشية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية التي يرزح تحتها اللبنانيون، من غير المفهوم إصرار البعض على إجراء الامتحانات الرسمية في عين عاصفة وباء قضّت مضاجع البشرية، وكارثة اقتصادية أنهكت الوطن، ومن دون أي اعتبار لانعكاس الظروف السيئة - اقتصادياً وصحياً ومعيشياً - وظروف التعلم عن بعد على صحة التلميذ النفسية، وعلى دافعيته للتعلم وتحصيله الدراسي واكتسابه للأهداف والكفايات التعلمية، ومن دون الأخذ في الحسبان الهوة التعليمية الحاصلة بين تلامذة التعليم الرسمي والخاص بسبب القرارات الارتجالية وسوء التخطيط والفساد في إدارة الملفات التربوية منذ عقود.
لا شك في أن ثمة معارضين لإلغاء امتحانات الشهادة الثانوية العامة من أصحاب النيات الحسنة. المبررات التي يسوقها هؤلاء تتمثل في أن الشهادة الرسمية تمثل الهوية التربوية التي تخوّل التلامذة دخول الجامعات الأجنبية خصوصاً، وأنها تعكس وجه لبنان التعليمي، وأنها أبرز أشكال سيادة الدولة في مجال التعليم. لكن، في المقابل، يجب أن يدرك هؤلاء أن الامتحانات الرسمية التي جرت سابقاً بصورة طبيعية لتغطية 100%من المنهاج لم تكن قادرة سوى على قياس نواتج تعليمية قائمة على معارف ومهارات محدودة في المواد التي يمتحن بها التلميذ، وقاصرة عن قياس كفايات ومهارات عقلية عليا، وما يتصف به المتعلم من أمور وجدانية متعلقة بالميول والاهداف والاتجاهات واتخاذ المواقف وحسن التصرف. وكان يصبغها التلقين، واتسمت بنمطية عالية في الأسلوب وطرح الأسئلة. فكيف بنا الآن في امتحانات قد لا تغطي 50% من منهاج تم تنفيذه خلال عملية تعليم عن بُعد لم تحقق الحد الادنى من الفاعلية المطلوبة؟ وهل يمكن تعويض كل ما خسره التلامذة إذا استؤنف التعليم المدمج لبعض الوقت؟ وعليه، ما جدوى هذه الامتحانات وما مدى فاعليتها والهدف الجوهري الذي تسعى لتحقيقه غير إعطاء شهادات للتلامذة في تعلم ضعيف وتقويم هزيل؟ هل يستحق الأمر أن نبذل جهوداً مضنية ونخاطر بأولادنا من أجل اختبارات شكلية وصورية لن يكون لنتائجها أي مؤشرات ونواتج تعليمية دقيقة ووازنة؟ وكيف نسعى لامتحانات غير قادرة على توفير شروط العدالة والمصداقية والمساواة والموضوعية والشمولية؟ وإذا كان الدستور يكفل المساواة بين اللبنانيين في الحقوق، فكيف لنا أن نخضع التلامذة من المدارس الرسمية والخاصة لمعيار تقويمي واحد في ظل فجوة تعليمية كبيرة بين الطرفين؟ وهل سيقبل الاساتذة المشاركة الفاعلة في أعمال هذه الامتحانات في ضوء الظروف الصحية والاقتصادية وتكاليف التنقل مقابل بدل مالي لم يعد يساوي شيئاً؟
عملية اتخاذ القرار الصحيحة تبدأ من تحديد المشكلة، ومن ثم جمع المعلومات والحقائق الميدانية المتعلقة بها، ووضع بدائل من حلول ثم اختيار البديل الأمثل. لذلك، فإن القرار الحقيقي للامتحانات الرسمية لا يتخذ في الغرف المغلقة، ولا بضغط من أصحاب المنافع المادية وأصحاب كارتيلات المدارس الخاصة التي لا تتوخى سوى الرب، بل بعد دراسة جدوى علمية عبر متخصصين، وعبر استطلاع رأي علمي وشامل يشترك فيه مديرو المدارس والتلامذة والمعلمون، واقتراح بدائل ممكنة لهذه الامتحانات تتلاءم مع امكانيات الجميع وظروفهم.
*باحث تربوي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا