لم يواجه القرار التربوي الرسمي، منذ عقود، موجات اعتراض كما هي حاله اليوم. المعترضون مديرون وروابط تعليمية ومعلّمون وتلامذة وأولياء امور. يكاد هؤلاء يجمعون على أن القيادة التربوية تخفق مع كل استحقاق، ويشوب قراراتها كثير من اللاواقعية وسوء المنهجية، والتناقض والسلطوية، وكأنّ المنظومة التربوية المعنية بتنفيذها «روبوتات» مبرمجة تتلقّى الأوامر وتتقيّد بالتعليمات فحسب، بمنأى عن جدوى القرارات وإمكان نجاحها، ما أفقد الثقة بالقيادة التربوية وكفاءتها في المعالجة وفعاليتها في إدارة الأزمة. والانطباع الراسخ لدى بعض التربويين هو أن التخبط في اتخاذ القرار شكل سبباً إضافياً في تعميق الأزمة التربوية، إذ أن بعض القرارات ألحق ضرراً بالمنطومة التربوية بكل مكوناتها، وساهم في خسارة عام دراسي أول، ويكاد يجهز على الثاني.الاقتناع بعدم القدرة على صناعة قرار تربوي رسمي عملي وجدير بالقبول والتنفيذ ليس ضرباً من الخيال، او ردة فعل آنية، او محاولة للتصويب الشخصي أو المهني، بل أتى نتيجة تجربة مريرة مع قرارات متتالية على مسار أكثر من سنة، وبعيد انطلاق التعليم عند بعد في العام الدراسي الماضي تحديداً، حين تركت المدارس لمصيرها في غياب خطط جاهزة وعدم توافر الموارد اللازمة. وتمظهر ضعف القدرة على صنع القرار واتخاذه بشكل سليم في كيفية إنهاء العام الدراسي السابق إذ برز الضياع مع كثرة الاقتراحات التي لم يؤخذ بأي منها. والتذبذب نفسه ساد مصير الامتحانات الرسمية وترفيع التلامذة وعدم القدرة علي اتخاذ قرار واضح في ما يخص الأقساط في المدارس الخاصة. وتكررت الأزمة مع انطلاق العام الدراسي الحالي، إذ أن كل المعطيات الصحية والاقتصادية كانت تشي بصعوبة انطلاق الدراسة حضورياً، لكن اتخذ قرار بالتعليم المدمج، سرعان ما تعثر لكونه لم يستند إلى منهجية واضحة ودراسة ميدانية واقعية.
وتأتي القرارات الاخيرة حول استكمال العام الدراسي واجراء الامتحانات الرسمية لتؤكد بشكل أوضح حجم الازمة التي تعانيها صناعة القرار على مستوى القيادة التربوية. فالوقائع الميدانية والظروف الصعبة على كل المستويات تتطلب قرارات واقعية وعملية، والقرار الحكيم يهدف دائماً إلى تلبية حاجات المعنيين به وتطلعاتهم، لا توتيرهم، وتكون إيجابياته أكثر من سلبياته. لذا طرحت تساؤلات محقة حول مدى معرفة القيادة التربوية بالواقع الذي يعيشه المعلمون والمدارس والتلامذة وظروفهم نفسياً واقتصادياً. إذ كيف يمكن لوازرة أن تطلب استئناف حضور التلامذة والمعلمين إلى الصفوف في ظل ظروف صحية غير مناسبة، ومناعة مجتمعية غير متحققة؟ وهل راعت القرارات الظروف الصعبة وعدم توفر الوقود بسهولة للانتقال من المدارس وإليها؟ وهل كانت قرارات تقليص الدروس علمية وموضوعية بما يمكّن من وضع برامج لتعويض الأهداف والدروس المقلصة؟ و كيف يمكن الإصرار على إجراء امتحانات رسمية صورية وشكلية تستهدف ربع المنهاج الرسمي وتغيب عنها شروط العدالة التعليمية والموضوعية والمصداقية وتكافؤ الفرص، وشروط الإستعداد لها تعلمياً وتربوياً ونفسياً واجتماعياً، وتكون كلفتها المادية أكبر من مردودها التربوي؟ ألا يولد القرار المتعلق بإلزامية مواد معينة وترك اختيار أخرى إرباكاً لدى التلامذة، وينعكس سلباً على الاهتمام بهذه المواد، وخصوصاً إذا انسحبت التجربة على السنوات التالية؟ ولماذا لا توظف الوزارة من الآن جهودها في وضع خطط علمية للعام الدراسي المقبل بالتعاون مع أصحاب الخبرة والاختصاص؟
ثمة أسئلة أخرى توجه إلى صانعي القرار: هل سبب هذه القرارات الخاطئة عدم كفاية القيادة التربوية العليا لممارسة التخطيط ووضع الاهداف ورسم السياسات والبرامج بشكل ممنهج، أم يعود إلى عدم توافر تنظيم إداري ملائم للتخطيط وإدارة الازمات؟ وهل يتم استطلاع رأي مديري المدارس والمعلمين والتلامذة في القرارات قبيل السير فيها؟ وهل العائلة التربوية التي يتم الحديث عنها ممثلة لكل الاطراف والجهات المعنية؟ وهل يتم اتباع الخطوات العلمية في اتخاذ القرار بدءاً من تشخيص المشكلة وصياغتها وتحديد الأهداف، مروراً بجمع البيانات والمعلومات الواقعية والشاملة من أرقام ومعطيات وتحليلها، ومن ثم اختيار الحل المناسب من مجموعة بدائل جيدة ووفق معايير علمية، ومن ثم اتخاذ القرار ووضع خطة لمتابعته وتقويمه وتصحيح مساراته بحسب النتائج والفاعلية؟ وهل تحقق هذه القرارات شروط المشاركة الديمقراطية، ومبادئ المساواة والعدالة والتكافؤ بين التلامذة، ولو نسبياً؟
*باحث تربوي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا