لم يغيّر الجرس في بيت شباب طبقياً ومجتمعياً وثقافياً فقط، بل إن صناعة الأجراس التي تمايزت بها البلدة المتنية، منحت ألقاباً لصناعها حتى غدت هوية.
حالياً، انحصرت صناعة الأجراس الكبيرة بآل نفاع بعد أن أقفل تباعاً حوالي 20 مصنعاً خلال القرن الماضي. أصل العائلة ليست "نفاع"، بل غبريل. لكن الناس أطلقت على يوسف غبريل، أول صانع للأجراس في بيت شباب، لقب يوسف نفاع لأنه نفع الناس بأن صنع جرساً يدق داعياً للصلاة أو منذراً من خطر ما أم مبشراً بخبر ما.

لكن كيف بدأت علاقة بيت شباب أو "بيت الجيران" (ترجمة اسمها بالسريانية)؟ بحسب الذاكرة الجماعية المتوارثة، فإن الفضل يعود إلى شخص روسي استدعي عام 1700 لصنع جرس كنيسة في بلدة بكفيا المجاورة. دله الناس على الحداد يوسف غبريل، للاستعانة به في تركيب الجرس. تعلّق غبريل بسحر الجرس. بطموح استثنائي في ذلك الزمن، طلب من الروسي تعلّم سرّ صناعتها. سافر إلى روسيا وعاد ليصب أوّل جرس. فنال لقب "يوسف النفاع" لأنه نفع أهالي منطقته بما تعلمه في روسيا.

أورث المعلم يوسف سره ليس لأبنائه وأقربائه فقط، بل لعدد من أبناء المنطقة الذين افتتحوا ورشهم الخاصة. لكن الحربين العالمية الأولى والثانية أقفلتا معظمها وهجّرت أصحابها. إلا أن آل نفاع، لم يقلعوا عن صنعتهم. أورثوها لأبنائهم ولا زالت حتى اليوم حاضرة في محترف أحد الأحفاد نفاع يوسف نفاع (52 عاماً) صاحب مصنع الأجراس الوحيد في الشرق الأوسط.

"بالدم والجينات"، امتلك نفاع سر الأجراس. منذ صغره، كان يراقب عمل والده ويساعده. ومن شدة تعلقه بها، كرس حياته للعمل فيها والمحافظة عليها. فلم يزاول أي مهنة أخرى. في عام 1985 وفي عمر الستة عشر عاماً، صار "المعلم نفاع" عندما نجح في صب أول جرس.

بثلاثة مراحل تمر صناعة الجرس. في الأولى يصنع القالب من مزج تربة "الحوّارة" مع شعر الماعز والمياه. وفي المرحلة الثانية، يتم صب خليط المعادن في القالب (النحاس والقصدير المذوبين) ويصب البرونز في الهامش الفارغ حول القالب المتصل عبر سكة بالفرن المتقد بدرجة حرارة عالية. أخيراً، يكسر القالب ثم يسكب المعدن المنصهر، أي البرونز في الفراغ بين القالبين عبر سكة تصله بالفرن. وفي المرحلة الثالثة، يبرد الجرس ويتماسك قبل أن ينزع عنه القالب.

ابتكر نفاع تصاميم حديثة في الأجراس مع محافظته على التصاميم الكلاسيكية. يشرف على فريق من ثلاثة أشخاص يصنعون حوالي 50 جرساً سنوياً، للكنائس أو للزينة في البيوت. أما زبائنه، من السوق المحلي إلى العالمي من أجانب وجاليات لبنانية منتشرة.

يوقن نفاع بأن مهنته هي فن متصل بالموسيقى والذوق والحس، فضلاً عن أنها رسالة للمحافظة على التراث اللبناني. "كل ما تعلمته من والدي أقوم اليوم بتعليمه لأولادي كي يعملوا بصبر من أجل النجاح والإستمرار. فالجرس مثل الولد بحاجة إلى تربية وعناية كثيرة، لأن عملية الصناعة تمر بعدة مراحل وصعوبات من أجل الحصول على نتيجة جيدة، في حين أنه يمكن أن يستغرق الجرس تقريباً 40 يوماً لصناعته". وعن سر تميز أجراس بيت شباب وأصواتها الجميلة، يرى أن ذلك يعود إلى تركيزه في عمله على عملية تحضير قالب الجرس، وبهذا يكون صالحاً للاستعمال من دون الحاجة إلى تنظيفه.

لم يكتف نفاع بما خبره حتى الآن. "أنا عامل بالفطرة. أسعى لتطوير قدراتي. لذا سافرت إلى فرنسا وقمت بزيارة بلدان كثيرة كي أتعرف على طريقة صناعة الأجراس الأوروبية والأجنبية. ولكن اكتشفت وتأكدت أن صناعتنا للأجراس تختلف وتتميز عن الصناعات الأخرى من ناحية الصوت والتقنية التي تحكمها خلطة المعادن".
فكرة الهجرة لا تخطر على باله في مقابل الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الأولية لصنع الأجراس. "ولداه على الطريق نفسه. يتابعانه في محترفه وقد امتلكا اللبنة الأولى للحرفة".