خصّصت مجلة «فلسفة» الفرنسية الشهيرة، أخيراً، عدداً خاصاً حول الفلسفة الرواقية التي تقوم تعاليمها على أن الطريق إلى السعادة يكون بتقبّل الحاضر. وفق هذه الفلسفة، ولمواجهة واقعنا الراهن، لا ينبغي أن نحزن على كوارث وأوبئة وتغيّر مناخ وغيرها، لأن لا تأثير لنا فيها. وهذه فلسفة كانت لها دلالات في عصرها غير تلك التي يتم تحميلها إياها اليوم. فكوارث اليوم، ولا سيما تغيّر المناخ والأوبئة الحديثة كالجائحة التي لم تنته فصولها بعد واستدعت «سجن» معظم سكان الكوكب في منازلهم، هي من صنع الإنسان الحديث، والحداثة الغربية خصوصاً. وما الدعوة إلى العودة الرواقية، بعدما تأكّدت مسؤولية الإنسان، سوى محاولة للتخفيف من عبء تحديد المسؤوليات، أو هي في أفضل الأحوال نوع من التكفير عن ذنب للتخفيف عن ضمير المرتكب.كانت الفلسفة الرواقية في زمنها تخفّف عن الإنسان عندما لم يكن يعرف أن له تأثيراً في الأحداث الكبرى، ولا سيما الكارثية منها. أما اليوم، وبعد التقدم الذي شهدته العلوم الوضعية والمعرفيّة عموماً، فلم يعد مفهوماً أو مقبولاً التقليل من مسؤولية الإنسان الحديث والفلسفة الإنسانية عامة ومن عبء تحمّل المسؤولية.
ما فات كتّاب العدد الخاص عن الرواقية أن هؤلاء الذين عاشوا قبل ٣٠٠ سنة من المسيح دعوا إلى التناغم مع الطبيعة وعدم تحدّيها أو استفزازها. وبلغة اليوم، عدم استغلال مواردها حتى الاستنزاف... ما يعني الاستمرار في نهج تقديس عناصرها واحترام التنوّع فيها، كما كانت الحال في المرحلة الميتولوجية. وقد اعتبروا ملحدين، بعد المسيح، أو بعد الفلسفة التوحيدية. ولكن ما الذي هدّد الطبيعة وكسر توازناتها وهدّد أنظمتها الإيكولوجية وأسس الحياة... غير الفلسفة الوضعية الغربية، فلسفة الأنا، التي تبنّت فكرة أسبقية الأنا على الوجود والطبيعة، تلك الفلسفة المتعالية التي أحدثت ما يُسمى الثورة الصناعية (القاتلة) وهدّدت التنوع البيولوجي، تماماً كما مهّدت لذلك الديانات التوحيدية بتهديدها للتنوّع؟
أخطر ما يحصل الآن وما يهدد الطبيعة والبشرية هو ذاك الصراع التجاري المدمر بين الدول، الذي بنى كل أمجاده على تقديس السوق والحرية الشخصية.
يقول الفيلسوف ميشال أونيفري، في العدد الخاص: «إن الفلسفة الرواقية تعلمنا وتساعدنا على القبول بما يكتبه أو يخبئه لنا القدر». إلا أن ما يحصل الآن من كوارث صحية ومناخية هو من صنع الإنسان المتفوق لا القدر. وكان حرياً به نقد الفلسفة الإنسانية الغربية التي ألّهت الإنسان، على طريقة الأديان التوحيدية التي اعتبرت هذا الأخير مخلوقاً على صورة الله ومثاله. هذه الفلسفة التي قتلت الطبيعة ثم الله، تقتل اليوم الإنسان بعد أن ادّعت تفوقه على باقي الكائنات. وما نحتاج إليه، اليوم، هو زحزحة الإنسان عن مركزه وعن اعتبار نفسه مركز الكون ومحوره.
وإذا كان من حاجة للعودة إلى الفلسفات القديمة، فلماذا إخفاء هذا الجانب من احترام الطبيعة، والتركيز على فلسفة القبول بقضاء وقدر الكوارث؟ ولماذا لم تحصل العودة إلى فلسفة مدرسة فرانكفورت التي نقدت الثورة الصناعية ونتائجها، ونبّهت من سيطرة الآلات وتشييء الإنسان وتسليعه وجعله ذا بعد واحد، إضافة إلى نقد التكنولوجيا بوصفها أداة سيطرة واستغلال بدل أن تكون أداة تحرر وسلام؟
وقد كنا ننتظر من آخر أَعلام هذه المدرسة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (رفض أخيراً الحصول على جائزة الشيخ زايد للكتاب بقيمة ربع مليون يورو بعد قبوله التكريم في البداية، بسبب ربطه بين المؤسسة التي تمنح الجائزة بالنظام ومدى احترامه للحريات)، أن يقدم هو نفسه اعتذاراً عن الغرب الصناعي المتقدم الذي تسبب باستغلال مفرط لموارد الأرض وغيّر مناخها وتسبّب بخروج الفيروسات عن السيطرة على المستوى العالمي... ليعود ويحدّ من حريات العالم في التنقل واللقاء… ما يعني ضرب نظام الحريات الذي طالما نظّر له ودافع عنه.
في الخلاصة، لسنا بحاجة إلى فلسفات تدعونا إلى القبول بالقدر الكوارثي الذي صنعناه أو تبنيناه أو اشتهيناه. بل نحتاج إلى فلسفة تساعدنا على إعادة التصالح مع الطبيعة ومع أنفسنا، قاعدتها احترام التنوّع والقبول بالآخر (الإنسان والكائنات الأخرى أيضاً)... وإعادة تأسيس أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيميّة على هذه القاعدة التي تحترم الأنظمة الإيكولوجية.
أما لناحية تحديد المسؤوليات، فعلى الملوِّث أن يعوّض وأن يدفع لتمويل الانتقال إلى المرحلة الجديدة، بعد الكوارث التي حصلت، إن على المستوى الكوني أو على المستويات الوطنية.
ومن هذا المنطلق، على بلد منهار مثل لبنان، يتحضر لإعادة بناء سلطة جديدة لا مفرّ منها في المرحلة المقبلة، أن ينطلق أولاً من اعتبار السلطة مسؤولية إدارة مجتمع وحفظ حقوق الناس والأجيال القادمة أيضاً... وليست مجرد وجاهة أو موقع نفوذ أو فرصة لغنيمة ما. وعلى هذه السلطة الجديدة استعادة الأموال المنهوبة والمحاسبة على الفساد المالي والإداري والفكري. فما حصل ليس قدراً أيضاً، بل عن سابق تصوّر وتصميم وتخطيط واحتراف… وتمّ دعمه وحمايته إقليمياً ودولياً لسنوات طوال، حيث تتقاطع المصالح والاستثمارات. وعلى هذه القاعدة الجديدة أيضاً، يتم التفاوض مع الجهات الدولية والإقليمية المانحة أو المتعاونة أو المستثمرة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا