لتحرير الجنوب ألف أب وأم، وجندي وجندية مجهولين، يليق بهم العيد. أحدهم أم حسين الزين التي واكبت المقاومين في وادي الحجير حتى حرست جثثهم ودفنتها.
لا يبدو الزمن قد مر على الثمانينية التي انتقلت بالزواج من بلدتها قبريخا إلى بني حيان، قاطعة الطريق الفاصلة بين ضفتي واديي الحجير والسلوقي. منزلها المحاذي للحجير خلال الاحتلال الإسرائيلي، جعلها شاهد عيان صامت لأفواج المقاومين من مختلف الانتماءات، الذين عبروا الوادي نحو النصر أو الشهادة. لكنها لم تكتف بالدعاء لهم لتحقيق أهدافهم والعودة سالمين. صارت تواكبهم وتؤمّن لهم الزاد وترشدهم إلى الطريق وتسديهم نصائح عسكرية. حينذاك، تضاعف عدد أبناء الحجة من بنت وست صبيان إلى مئات من فلسطينيين ولبنانيين من مختلف المناطق، توحّدوا تحت غاية تطهير الأرض.

أصعب ذكرى تحملها «الحجة» من حقبة الاحتلال، هي الشهيد رمزي كمال الدين. في حزيران من عام 1993، حضر ابن بلدة صريفا لتنفيذ عملية في إطار «المقاومة الإسلامية». ابن الـ24 عاماً كان ضمن مجموعة اشتبكت في سفح بني حيان مع قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي. «عند الفجر، استفقنا على أصوات انفجار ورصاص قبل أن تحضر مروحية وتنقل المصابين من جيش العدو»، تقول. تستذكر بفخر أن عملية «الشباب حققت نصراً مؤكداً».
لكنها سرعان ما تختنق بغصّتها. إنه رمزي، حرقتها المستمرة. لمحت جثة شهيد ترك في الميدان. «حام حوله وحوش العملاء لأيام قبل أن يتركوه للوحوش الضارية. لم نتمكن من الوصول إليه بسبب القنص المستمر من المواقع المواجهة والدوريات. «ابنتي مريم ابنة 16 سنة آنذاك، تمكّنت من إبلاغ الصليب الأحمر الدولي الذي تمكّن بعد مدة من الوصول مع قوات الطوارئ وسحبوا ما تبقى من الجثة»، تستذكر أم حسين وهي تحبس دموعها.

ما إن تمكّن ولداها مريم وخضر من الوصول إلى موقع العملية، حتى وجدوا بقايا من جثة كمال الدين. «جمعنا العظام في كيس ودفناها في الحقل المجاور لنا، ولم نخبر أحداً إلى أن حلّ التحرير»!
عن طريق الصدفة، علمت العائلة بأن أحد أقارب الشهيد يبحث عن موقع استشهاد رمزي. التقوا به وقاطعوا البيانات حول العملية، لتكتشف أم حسين وأولادها للمرة الأولى بعد سبع سنوات أن جارهم النائم في حقلهم هو رمزي كمال الدين. لم تتخلّ عنه. شيّدت فوق القبر السرّي شاهداً رخامياً يخلّد ذكرى أحد صانعي نصر التحرير.
«لم يمت رخيصاً»، تقول بحسم. هي وأولادها دفعوا ثمن حراسة رمزي بعد استشهاده. عبر أحد العملاء، علم العدو بأن مريم أبلغت عن الجثة. اعتقلت في معتقل الخيام لأشهر طويلة بسبب ذلك، ومساعدة المقاومين. بعد عام على استشهاد رمزي، عثر خضر (مواليد 1980) على يدٍ في موقع عملية نفذتها المقاومة. «كانت يداً لشهيد يضع في أصبعه خاتماً أزرق. حملها خضر ودفنتها مع جارتي» تقول أم حسين.

شقيقها عباس الذي ساندها في دفن عظام الشهيد تأثّر بقوافل الماضين نحو النصر والشهادة. «كان يقول لي دائماً إنه عندما يكبر سيقاتل الإسرائيليين. وهذا ما حصل» تقول. بعد التحرير، انضم إلى «المقاومة الإسلامية». أثناء عدوان تموز، استشهد في عملية بين الجنوب والبقاع الغربي. إبّان ذلك العدوان، وبينما كان التواصل مع ابنها مفقوداً، كانت تحرس زملاءه في وادي الحجير كما كانت تفعل خلال الاحتلال: «كنت أخبز الخبز للشباب، الذين يأتون كل يوم لأخذ ما أخبزه لهم».