استطاعت الطبقة الحاكمة في لبنان، وخاصة منذ سنة 1993، أن تعيد توزيع الناتج المحلي القائم لمصلحة أرباب العمل وأصحاب الثروات، على حساب القوى العاملة في القطاعين العام والخاص. منذ انخفض نصيب الرواتب والأجور من الناتج المحلي إلى أقل من الربع، في الوقت الذي تبلغ نسبتها في البلدان المتقدمة والعادلة نسبياً نحو ثلاثة أضعاف هذه النسبة، أي 75% من الناتج.
وقُلِّص نصيب الرواتب والأجور من الناتج عبر بنية سياسية وفكرية أنتجت دفقاً من التشريعات التي أعفت أصحاب رؤوس الأموال من الضرائب، بالإضافة إلى تشريعات سابقة في هذا القبيل، وعبر تعطيل أجهزة الرقابة والمحاسبة، بهدف زيادة معدلات الهدر في المال العام.
فقانون الشركات العقارية، الذي مرّ دون أي اعتراض من أحزاب السلطة أو المعارضة، أعفى الأثرياء من أبناء الشريحة العليا من الطبقة الحاكمة، من ضريبة الإرث والمتاجرة بالعقارات، حيث حصر حق إنشاء هذه الشركات بمرسوم من مجلس الوزراء. ولم يعترض أي فريق من القوى السياسية المتحكمة على خفض الرسوم الجمركية على الواردات، وعلى اتفاقية الشراكة من السوق الأوروبية المشتركة، الذي سمح بسياسات الإغراق للسوق المحلية وعطل الإنتاج السلعي الزراعي لمصلحة التجار المستوردين. ولم يعترض أحد على خفض الضرائب على أرباح الشركات، وإلغاء الضرائب على «الشركات القابضة»، في الوقت الذي يرتفع فيه الضخ الضريبي من الضرائب غير المباشرة والرسوم، الذي يقع عاتقه على الفئات الشعبية.
قُلِّص نصيب الأجور
عبر بنية سياسية وفكرية وتشريعية
ولم تقم حتى الآن معارضة جدية على قانون السرية المصرفية، الذي وُضع في الأساس لتمكين الأثرياء وأصحاب المداخيل المرتفعة في القطاع الخاص، من التهرب من ضريبة الدخل. وفي الوقت الذي رُفع فيه هذا القانون لمنع الذين يحملون الجنسية الأميركية أو البطاقة الخضراء الأميركية، من اللبنانيين، من التهرب من ضريبة الدخل لمصلحة الخزينة الأميركية، وجُنِّدت المصارف اللبنانية لتطبيق هذا القانون، فإن مفوضي الضرائب في وزارة المالية، وحتى أعضاء لجنة الرقابة المصرفية، يمنعون من التدخل لحماية مصالح الخزينة اللبنانية. إن الأموال التي يعفى أبناء الطبقة الحاكمة من دفعها للخزينة، والأموال التي تتمكن هذه الطبقة من تهريبها من الضرائب، والأموال التي أُهدرت في عملية الإنفاق العام، يجري التعويض عنها بفرض ضرائب غير مباشرة على الفئات الشعبية من ناحية، وخفض نصيب الرواتب والأجور من الناتج، و«ترشيق» القطاع العام (حسب قول السنيورة) عبر تفريغه من الكفاءات وزيادة نسبة شغور الوظائف الأساسية والمنتجة فيه، وكذلك عبر سياسات الخصخصة «والمشاركة» أو «التشاركية»، وأيضاً عبر تدني نسبة الدخل الاجتماعي للفئات الشعبية وتردي مستوى الخدمات العامة الضريبية لبعض مؤسسات القطاع العام، أو إلغائها (نقل عام، تعليم رسمي، مياه كهرباء إلخ...).
يستحيل تحقيق العدالة الاجتماعية في لبنان دون نضال سياسي اجتماعي بقيادة أحزاب تمثل فعلاً الطبقات العاملة، تستطيع عند وصولها إلى السلطة إعادة توزيع الناتج المحلي لمصلحة القوى العاملة، على الصعيد الوطني، وتعزيز نصيب الأجر الاجتماعي الأكثر ثباتاً، بحيث يشكل هذا الأجر ما يقارب نصف الدخل الحقيقي للفئات الشعبية الضعيفة، يعني ذلك إجراء تغيير كبير في بنية السلطة السياسية وتوجهاتها الاقتصادية الاجتماعية. ويعني ذلك إحداث تحول كبير في السياسات المالية، بحيث يقلص «وقع السياسة المالية» الهوة الواسعة بين مداخيل الشريحة العليا والشريحة الدنيا في المجمتع، بدل توسيعها، كما هي الحال في لبنان، فإن وضع السياسة المالية في بريطانيا، حتى بعد عهد المحافظين الجدد، يقلص معدل الدخل بين الشريحتين، من 27 ضعفاً إلى سبعة أضعاف.
في ظل النظام الراهن، تستطيع الطبقة الحاكمة، إمرار أعباء سلسلة الرتب والرواتب إلى عاتق الطبقات الشعبية، بمن فيها المستفيدون من هذه السلسلة عبر السياسات المالية والنقدية، وعبر البنية الاحتكارية المعتمدة للنظام. فالفوائد المرتفعة على الإقراض التي يدفعها الرأسماليون للمصارف يجري إمرارها إلى عاتق المستهلكين من الفئات الشعبية، عبر أسعار أكثر ارتفاعاً وزيادة الضرائب على العقارات السكنية وعلى مدخلات البناء، يجري إمرارها إلى عاتق المستأجرين وأصحاب الأبنية السكنية الخاصة، وكما يجري إمرارها إلى عاتق المستهليكن للخدمات التجارية والترفيهية في الأسواق، فجزء كبير من ثمن وجبة غذائية أو فنجان قهوة في مطعم أو مقهى، يذهب إلى صاحب العقار المستأجر أو إلى المصرف الذي مول المؤسسة الخدماتية. ومع تطور السياسات النقدية، وبنية المصارف المركزية واستقلاليتها النسبية، بإمكان المصرف المركزي في لبنان، بالتضامن مع جمعية المصارف ووزارة المال (غير البعيدة عن أصحاب المصارف) أن يرفع معدلات التضخم، عبر ضخ الأموال في السوق، وعبر رفع معدلات الفوائد، ليخفض معدل الأجور الحقيقية لكافة العاملين. فقد استطاعت آليات السوق المالية، كما السياسة النقدية، تمويل الدولة، إبان تفكك أجهزتها من سنة 1982 إلى سنة 1992، بمبالغ تفوق 12 مليار دولار (بسعر دولار تلك الفترة) عبر ضريبة التضخم. كذلك مكنت المصارف وكبار المودعين فيها، من نهب احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، ونهب ودائع صغار المودعين بالليرة اللبنانية، عبر آليات المضاربة ضد الليرة.
باختصار شديد، إن حل مشاكل الطبقات العاملة هي في النضال السياسي الاقتصادي الاجتماعي الشامل من أجل التغيير وبقانون أحزاب غير طائفية تمثل معاً مصالح أوسع الفئات الشعبية.
* باحث اقتصادي/
مدير سابق في مصرف لبنان