على هامش معرض Project Lebanon 2014، عرض عبد الله الدردري، كبير الاقتصاديين ومدير إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في «الإسكوا»، «الخيارات» المتاحة في السياسات الاجتماعية _ الاقتصادية الكلية لإعادة إعمار سوريا، واضعاً الحضور أمام ما صوره كأمر واقع. برأيه، يقتضي التسليم بضرورة الاستدانة لتمويل إعادة الإعمار والارتكاز على القطاع الخاص، فضلاً عن إعادة هيكلة المؤسسات وتعديل القوانين بما يتناسب مع هذا الغرض، مستلهماً التجربة اللبنانية في إعادة الإعمار، من دون أن يشير الى أن هذه التجربة أنتجت نمواً مشوهاً قطاعياً ومناطقياً، وبكلفة فلكية رتّبت ديناً عاماً قياسياً وتاريخياً لمصلحة فئة قليلة جداً وعلى حساب كل المجتمع.
شكّل Project Lebanon 2014، المعرض التجاري الدولي لمواد ومعدات وتقنيات البناء الذي أقيم في وسط بيروت بين الرابع والسادس من الشهر الجاري، إطاراً لربط رجال الأعمال السوريين بنظرائهم في المنطقة والعالم، وبالبعثات التجارية والدبلوماسية لمختلف الدول المشاركة، استباقاً لعملية إعادة الإعمار في سوريا ما بعد الحرب. شارك في المعرض مئات الشركات من الصين وتركيا وإيران ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والأردن ودول أوروبية عدة، فضلاً عن الوكالة الفرنسية لتنمية التجارة الخارجية، والمفوضية التجارية الإيطالية، وغرفة تجارة لوكسمبورغ، ووكالة «أدفانتج أوستريا» النمسوية، ووزارات الاقتصاد في تركيا ورومانيا ولوكسمبورغ، وسفارات دول عدة، بينها إيطاليا وفرنسا والنمسا ومصر. لم يأتِ اختيار شركات المقاولات والهندسة والتجارة العربية والأجنبية لبيروت مكاناً لاستضافة المعرض _ المؤتمر على سبيل الصدفة، فمن المتوقع أن يلعب لبنان دور «المستودع» في عملية إعادة إعمار سوريا المحاصرة بالعقوبات، على حد تعبير أحد المسؤولين الأوروبيين.
بالتوازي مع المعرض، عقد «منتدى رجال الأعمال السوريين» ندوة ضمت إلى جانب مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين والعرب والأجانب، خبراء ومسؤولين في الـ«إسكوا»، التي تدير مشروع «الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا» المتمحور حول إعادة الإعمار. قدم الدردري عرضاً حول ملامح الاقتصاد الكلي وخيارات السياسة الاقتصادية العامة لمرحلة ما بعد الحرب في سوريا. «لسنا هنا لتقاسم كعكة إعمار سوريا»، فذاك «مشروع وطني واسع لمجتمع برمّته، وليست مشاريع إنشائية هنا وهناك»، قال الدردري، مضيفاً إن عملية إعادة الإعمار تتطلب مشاريع «تكفي الشرق الأوسط كله»، وإن سوريا ستحتاج حتى إلى استيراد يد عاملة إضافية. «لا نخطط نيابةً عن سوريا»، قال الدردري، موضحاً أن التقديرات والخيارات التي يطرحها هي نتاج جهود نحو ألف من الخبراء السوريين العاملين في إطار مشروع «الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا»، وأن «المجتمع السوري» هو من سيقرر كيفية إعادة الإعمار وخططه، ويختار الشركاء في البناء. «لا ندّعي تمثيل أحد؛ ونطرح القضايا، لا الحلول»، أكد الدردري.
لا أرقام نهائية مدققة ومعترف بها حول واقع الاقتصاد الكلي السوري، يقول الدردري، شارحاً أن ما يقدمه هو حسابات وتقديرات «شخصية» أجراها خبراء. كان الأخيرون يتوقعون نمواً سنوياً في الناتج المحلي السوري بين عامي 2011 و2013 يبلغ 5.3%، فإذا بالنمو يتراجع بفعل الحرب بحوالى 28% سنوياً، ليخسر الاقتصاد حوالى نصف الناتج المحلي، و«ينتهي كل ما بُني منذ عام 1982»، بحسب الدردري الذي يرى أن خسارة سوريا «تعادل خسارة العراق» منذ حربه مع إيران، وحتى الحروب الأميركية عليه.

إجمالي الاستثمارات المطلوبة في 10 سنوات يتراوح بين 156 و200 مليار دولار

يقدّر الدردري «التدمير الرأسمالي»، أي دمار المصانع والمنشآت، بحوالى 90%، لكنه يبدي تفاؤلاً بـ«توقف التدهور»، معلناً أن الناتج المحلي في الربع الأول من العام الجاري سجل نمواً إيجابياً بعودة جزء من الصناعة إلى الحياة. يشير الدردري إلى نزفٍ كبير في احتياطي العملات الأجنبية، مقدراً ما تم استخدامه منها عام 2012 وحده بحوالى 12 مليار دولار، ويقدّر تفاقم العجز في الموازنة العامة من 6% عام 2011، حيث كان الناتج المحلي حوالى 60 مليار دولار، إلى حوالى 43% راهناً، مع تقلص الناتج المحلي إلى حوالى 30 مليار دولار، وزيادة نسبة البطالة إلى حوالى 50%.
إجمالي الاستثمارات المطلوبة في السنوات العشر التي تلي انتهاء الحرب لإعادة البناء «واللحاق بالسنوات التي ضاعت» يتراوح بين 156 و200 مليار دولار، يُفترض أن يوفّر القطاع العام 60 ملياراً منها، بحسب الدردري الذي يرى أن الحيّز المالي المتاح لتمويل الاستثمارات العامة «ضيّق للغاية، ويضيق» باطراد، فيسأل كيف للدولة أن توفّر ما معدله 6 مليارات دولار من الاستثمار الحكومي سنوياً، ليضع مستمعيه أمام «خيار» أوحد، الاستدانة وفتح الباب واسعاً للقطاع الخاص المحلي والدولي، وإجراء التعديلات القانونية والمؤسساتية لخدمة هذا الغرض.
الإنفاق على «المصالحة الوطنية» عبر صناديق للتعويض على أسر الشهداء والجرحى والمفقودين أولوية قصوى «لشراء السلام الاجتماعي خلال الأيام الأولى بعد انتهاء الحرب، ولو كان الأمر غير مجدٍ اقتصادياً» ومكلفاً، يقول الدردري، مؤكداً الحاجة إلى «نجاحات سريعة» تتيح النمو السريع في مرحلة السلام الأولى، كإعادة بناء قطاع الكهرباء؛ ورغم كون الأمر أولوية، فالواجب دراسة التكلفة وضبطها، فهي ستكون «على حساب شيء آخر» حتماً. كالحاجة إلى إعادة بناء 1،500،000 مسكن بكلفة تُقدّر بـ 28 مليار دولار. الاستثمار في قطاع البناء يخلق فرص عمل وافرة، وإن كانت غير مستدامة، يقول الدردري، زاعماً أن الدولة لن تستطيع القيام بتلبية الطلب على المساكن وحدها، ما يفرض توسيع دور القطاع الخاص في هذا المجال (يعتبر الدردري أن تجربة إعادة الإعمار في لبنان تجربة ناجحة يجدر الاستفادة منها!). الاستثمار في قطاع النفط، في حال رفع العقوبات، يدرّ 20 مليار دولار على المدى القصير، غير أنه لا يخلق فرص عمل وافرة، يؤكد الدردري، شارحاً أن بمقدور 100 عامل في القطاع إنتاج 100 ألف أو 4 ملايين برميل. الإنفاق على الاحتياجات الاجتماعية كالصحة ومياه الشرب والتعليم أولوية أيضاً، فالاحتياجات غير محدودة، غير أن الموارد محدودة، يقول الدردري. يسأل الدردري عن جدوى انضمام سوريا إلى منظمة التجارة العالمية، فإذا انضمت تكسب أسواقاً للتصدير، لكنها تخسر نسبة مهمة من عائدات الرسوم الجمركية؛ «كيف نعيد البناء إذا لم نفتح باب الاستيراد»، يسأل الدردري، مضيفاً إن إعادة الإعمار تتطلب 30 مليون طن من الإسمنت، لا تنتج سوريا إلا جزءاً يسيراً منها، ويسأل كذلك عن توفر المياه الكافية لعملية جبل كميات الإسمنت هذه! يرى الدردري ضرورة لدرس مشاريع اتفاقيات التجارة مع تركيا والاتحاد الجمركي العربي ومنظمة التجارة الحرة و«الشراكة» مع الاتحاد الأوروبي «بنداً بنداً»، والموازنة بين النتائج الإيجابية والسلبية، لافتاً إلى أن «لا ترابط واضحاً بين هذه الاتفاقيات وزيادة الدخل أو خلق الوظائف». هل تحافظ سوريا على البنى المؤسساتية الحالية، أم تجري إصلاحات هيكلية، وهل تعتمد سعر صرف حراً، أم تثبّت سعر الصرف وتبني احتياطاً من العملات الصعبة يكفي للدفاع عنه، يسأل الدردري، داعياً إلى دراسة آثار كل سيناريو على سعر الفائدة وكلفة الاستيراد.
يسأل الدردري عن «المؤسسات الديموقراطية» التي ستتحمل مسؤولية المفاضلة بين الخيارات هذه، و«ضمان» عائدات التوظيف تبعاً للخيارات، داعياً أن «يكون الله في عون» من سيتخذ القرارات تلك، وأهمها قرار «إحياء القطاع العام»، أو توسيع حيّز القطاع الخاص! «لا بديل من الدولة في سنوات السلام الأولى»، يؤكد الدردري، شارحاً أن النمو الاقتصادي العالي الذي يعقب الحرب، عبر عودة الإنفاق العام والتجارة والمساعدات، لا يكون في السنوات الثلاث الأولى للسلام، وهي المرحلة «الحرجة» حيث تجب «طمأنة» الشعب والمستثمرين على السواء، وحيث الحاجة الملحة إلى توفير فرص عمل لأكثر من ثلاثة ملايين مواطن. يضع الدردري الدولة أمام الخيار الآتي: هل تلعب الدولة دور الناظم أم المستثمر؟ لم تتجاوز الاستثمارات العامة 7 مليارات دولار قبل الحرب، يقول الدردري، مشككاً بقدرة الدولة ومؤسساتها على التعامل مع تحدي تأمين حصتها من الاستثمار المطلوب لمرحلة إعادة الإعمار (يقدره بـ 60 مليار دولار، كما أسلفنا)، فضلاً عن القيام بالاستثمار حيث يجب وكما يجب.
يطرح الدردري خيار الاستدانة، مشيراً الى أن نسبة الدين العام من الناتج حالياً لا تتجاوز 13%، ما يتيح الاستدانة مبدئياً، رغم أنه لا «تقييم سيادي» لسوريا، وإذا وُجد يكون «سيئاً للغاية»، ما يرفع كلفة الاقتراض، لكن «لا خيار آخر»(!)، يقول الدردري، مقترحاً الاستدانة الداخلية عبر إصدار «سندات وطنية» يشتريها المواطنون، والاستعانة بالمساعدات الخارجية، (يشير الدردري إلى حصول مصر على 12 مليار دولار من دول الخليج). وعن تحسين التحصيل الضريبي، يسأل الدردري إن كان الدمار قد أبقى مطارح ضريبية أصلاً، طارحاً معضلة المفاضلة بين الإعفاءات الضريبية لتشجيع الاستثمارات، وزيادة التحصيل الضريبي لتمويل الإنفاق الضروري على البنى التحتية والصحة والتعليم!