عالم رقم 1

تنطلق أم محمد باكراً كعادتها، إلى «سوق الجمّال» في الشياح، مع بدء التجار إفراغ حمولات الخُضر والفواكه لتنتقي «الحبة المنيحة». تدور بين العربات بحثاً عما يناسب قدرتها الشرائية لتقرّر على أساسه ما يمكن أن تطبخه، بخلاف سلوكها الذي كانت معتادة عليه في السابق، عندما كانت تخرج من بيتها وهي تعرف مسبقاً ماذا تريد أن تطبخ وأيّ نوع من الخضر ستشتري. تضحك بسخرية «وفّروا عليّ عناء التفكير بالطعام». كما وفّروا عليها حمل الكثير من الأكياس، إذ باتت تشتري حاجاتها بالحبة أو بنصف الكيلو «متى كنا نشتري البطاطا بالكيلو؟!» تسأل، فهذا أمر غير مألوف بالنسبة إليها. ما هو غير مألوف أكثر أنها باتت تشتري الثوم «بالحبة، صرنا مثل الأوروبيين. فكيلو الثوم اليوم بـ60 ألف ليرة». عندما التقيناها، أكدّت أنها لن تستطيع أن تشتري الفاكهة اليوم، ربما تشتري برتقالاً للعصير لأنه الأرخص ثمناً بين أنواع البرتقال، ولا تنسى أن تذكر أنها تمرّر أحياناً كيلوغرامين من الموز في الشهر.
على العربات في «سوق الجمّال» اختفت الكثير من أنواع الخضر، فلا وجود للكوسا (25 ألفاً)، ولا للخيار (27 ألفاً) ولا الباذنجان (25 ألفاً) ولا اللوبياء (100 ألف). كلّها أنواع لم تعد مطلوبة رغم أنها أصناف رئيسية في المطبخ اللبناني لا لشيء سوى لأن أسعارها ترتفع يومياً. لن يغامر البائع بشرائها وهي تخسر نصف وزنها في يوم واحد. قد تجدها على بعض عربات البيع، لكن بكميات قليلة لتلبي من يشتري. فثمة زبائن لا يزال وضعهم المادي يسمح لهم بأن ينوّعوا في أصناف الطعام. لكن بالمجمل يبقى «سوق الجمال» سوقاً للفقراء ومتوسطي الحال يقصده الناس من الشياح وعين الرمانة والمناطق المجاورة، حيث الأسعار تبقى أرخص قليلاً من أماكن أخرى. ... لكنها تبقى أسعاراً مرتفعة، خصوصاً أنها تتحرّك من دون ضوابط. ففي بداية شهر رمضان ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، ثم عادت لتسجّل انخفاضات جزئية في بعض الأنواع. الأسباب تتنوّع بحسب العضو في نقابة تجار الخضر والفواكه بالمفرق أحمد عريضة منها: احتكار بعض التجار للبضائع في أوّل يومين، وتحوّل الطقس من البرد إلى الدفء، إضافة إلى أن الموسم كان وفيراً هذا العام ولا سيما في الحمضيات التي توقف تصديرها براً، فانخفضت أسعارها. وعن التفاوت في الأسعار بين مكان وآخر يلفت عريضة إلى أكلاف المحروقات ونوعية البضاعة، فالخُضر المخصّصة لأسواق الفقراء هي غير تلك المخصّصة للمحالّ الكبيرة.

عالم رقم 2
على مقربة من هذا السوق بنحو كيلومترات قليلة في الجناح يقوم محل «فادي فروتس». هنا عالم آخر، وزبائن من نوع خاص. ففي وقت كان هناك من ينتظر آخر النهار لكي يشتري بقايا الخُضر، التي يقال لها برَارَة، بأرخص ثمن ممكن، تجد هنا من يدفع لقاء حبة واحدة من الفاكهة التايلاندية ما يزيد عن نصف مليون ليرة.
هنا، تُشحن أصناف الفواكه والخُضر من مختلف أنحاء العالم لتنوّع سفرة فئة قليلة من ميسوري الحال بالفواكه والخضر الأجنبية، بدءاً من العنب البري الأجنبي، مروراً بالبلاك والبلو بيري، والغرافيولا، والصعتر الفرنسي، والليتشي، والعنب، والكرز، الدراغون… وغيرها الكثير من الفواكه والخضر التي لا يعرف بأسمائها إلا القلة، منها ما يباع بالحبة ومنها بالغرامات أو الضمة. هنا أيضاً يوجد اللوز الغالي الثمن الذائع الصيت وكذلك الجنارك. بعد أيام قليلة سينخفض سعره كثيراً لكن ثمة من لا ينتظر.

الخُضر المخصّصة لأسواق الفقراء هي غير تلك المخصّصة للمحالّ الكبيرة


في زاوية في المحل توجد الخضر الجاهزة، كأصناف الكوسا والباذنجان المنقورة المحضّرة للطبخ، والفواكه المقطّعة والمغلّفة بعناية. ألم ينخفض الطلب عليها بتأثير من الأوضاع الاقتصادية؟ ينفي حسام الهبرا، مدير الصالة في المحل ذلك. «فمن كان قادراً على شرائها قبل الأزمة هو نفسه من يشتريها اليوم وهم غالباً من فئة كبار الموظفين ممن لا يتّسع وقتهم لتحضير الأكل».
لا يوجد الكثير من الزبائن، فالخُضر تُطلب عبر خدمة الديلفيري، أو يأتي السائق أو مدبّرة المنزل لشراء الحاجات. كما يقصد المتجر بعض المقيمين قريباً منه يشترون الفواكه المحلية أو السورية «أسعارها تقريباً هي نفسها في الخارج» تقول جنان، وهي موظفة في الدولة، تآكل راتبها، لكن زوجها الذي يتقاضى راتباً بالدولار يجعل من الممكن من وقت لآخر تدليل عائلتها ببعض الفواكه اللذيذة «على الأقل أضمن أن الخضر والفواكه هنا باب أول فلا أفتح كوز الرمان وأجده مدوّداً».
يقول حسام إن الأصناف التي لا تباع، ترسل إلى عائلات محتاجة أو إلى دور الأيتام. تُسمى البضائع التالفة رغم أنها ذات جودة ممتازة لكنّ المحل لا يستطيع أن يتنازل عن تقديم الأصناف الطازجة لزبائنه الخاصّين. يؤكد أنهم كتجار ليسوا بمنأى عن الخسارات، فأحياناً تصل الفواكه ناضجة من أستراليا مثلاً بسبب تأخر تفريغ السفن أو حدوث مشاكل في الشحن.