سخر بعض "المعارضين" من حركة وزير البيئة وبعض النواب الجدد لحماية مغارة وفقمة عمشيت. وعلى الأرجح، تبدو دوافع السخرية وكأنها تقول إن هناك قضايا أكثر جدية للاهتمام بها. وإن هناك مخالفات وانتهاكات أكبر، وقضايا أهمّ، في طليعتها وضع الإنسان اللبناني الذي لم يعد يستطيع أن يصل إلى الدواء والماء وكلّ ما بينهما من غذاء وطاقة، إلخ. قد يبدو كل ذلك صحيحاً بمقاييس محدّدة، حدّدتها فلسفات وممارسات وتجارب لا تعدّ ولا تحصى. وعلى الأرجح لم يتم تقييم هذه المقاييس بعد حصول الأزمة الأخيرة، المتعدّدة الأشكال والوجوه أيضاً. أي لم يتم تقدير وتقييم هذا الفصل المتعالي بين قضايا البيئة وقضايا الإنماء والاستثمار والربح والرفاهية، إلخ. بالإضافة إلى تقييم الفصل بين البيئة وقضايا الفقر بشكل عام، وبين قضايا البيئة والقضايا الاقتصادية والاجتماعية عامة، على قاعدة أن الفلسفة الإنسانية الغربية المسيطرة عالمياً (ما بعد فلسفة الأديان التوحيدية) هي التي تمنح الإنسان الأولوية والأفضلية على بقية الكائنات، لا بل تجعله سيّداً عليها.
أثبتت الأزمات العالمية المتكرّرة والمتراكمة والمتمادية، والتي باتت متمادية في عالميتها وفي تأثيراتها الوجودية مثل الأوبئة الحديثة وتغيّر المناخ العالمي، أن التركيز على محورية الإنسان في الطبيعة باتت تهدد النوع الإنساني نفسه بوجوده، ما يحتم التفكير وفق منطق آخر وفلسفة مختلفة يدفعها هذه المرة بعض التواضع في تقييم الإنسان لنفسه.
بهذا المعنى لم تعد قضية الاهتمام بفقمة نادرة أو على شفير الانقراض، تعني تفضيل حياتها على حياة الناس، بقدر ما باتت تعني تعزيز وتدريب النفس البشرية على أخلاقيات جديدة تأخذ في الاعتبار حياة بقاء الكائنات، وهي الصفات الأخلاقية الجديدة والضرورية لإنقاذ النوع البشري من الآن وصاعداً.
على كلّ حال، كل ذلك لا يعني عدم وجود انتهاكات أخرى (يصعب ولا يهمّ ترتيبها بالأكبر والأخطر) قد لا تكون ضمن دائرة الاهتمام أو تحت الضوء، مثل صدور قرارات عن مجلس الوزراء بإعطاء مهل جديدة لشركات الإسمنت لاقتلاع المزيد من الجبال، أو لإعطاء وزارة الداخلية مهلاً جديدة لنقل ستوكاج من دون مراقبة وتدقيق، ما كان يعني عملياً، ولا يزال، السماح باستمرار العمل العشوائي في القطاع.
قد يقال إن هناك فروقات بين تهديد وجود نوع من الأنواع في الطبيعة، الذي لا يقارن مع اقتلاع جبل يضمّ أنظمة إيكولوجية وأنواعاً عدة. وقد لا يكون ذلك صحيحاً بمعايير بيولوجية، إذ مع أن فقدان نوع معين من بين أنواع متنوعة، قد يعني أيضاً إخلالاً بنظم إيكولوجية لا أحد يعرف انعكاساتها الوجودية على المدى البعيد لناحية تهديد أنواع أخرى بالانقراض أيضاً، قد يكون بينها في النهاية النوع الإنساني، إذا استمررنا في تبني هذا المنطق وهذا النهج في التقييم وهذه الممارسات في الاستثمار.
أما عن علاقة حماية الأنواع من الانقراض بالمقارنة مع متطلبات تأمين الأمن الغذائي والصحي للمجتمعات، فأمر كتب الكثير عنه منذ عقد أول اجتماع دولي بيئي في استوكهولم قبل نصف قرن بالتمام والكمال، بدل أن تتراجع البشرية منذ بداية ظهور الاختلالات البيئية الكبيرة بسبب النشاط الإنساني الزائد وفكرة التنمية المسيطرة في البلدان المتقدمة صناعياً، طالبت البلدان النامية بحقها من فرص التنمية!
قد يكون من المفيد وبمناسبة كل انهيار يقع، أن تحصل إعادة نظر بالأفكار والقيم والممارسات، وفي طليعتها فكرة التنمية نفسها، بالإضافة إلى المشاريع الكبرى في الاستثمار وطرق السيطرة والاحتكار. ولا بد بداية من إعادة النظر بالأخلاقيات ونظام القيم، إذ يفترض إعادة الاعتبار للنوع بالنسبة إلى الكمّ، إلى الصغير بالنسبة للكبير، وإلى النظرة الدائرية بدل الخطية، والكلانية بدل التخصّصية التي أشبعتنا أزمات. والبحث في سبل التعاون بدل التنافس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد.
والسؤال الذي يطرح الآن على "النواب التغييريين"، أي نموذج حضاري تنموي قديم أو جديد يتبنون؟ وهل يدرج ذلك على جدول أعمالهم؟ لم نسمع أحداً منهم بعد يتناول هذه المواضيع بكلّ أبعادها. إذ ربما يكون فقدان نوع أو جبل أو نظام إيكولوجي بسبب سوء الإدارة السياسية للبلاد وفساد الحكام، أخطر بكثير من فقدان الودائع في البنوك، مع ما لهذا الموضوع الأخير من أهمية خصوصاً بالنسبة لفئات عمرية حساسة كالذين أنهوا أعمال حياتهم وادّخروا بعض المال لآخرتهم. ومعيار الفئة العمرية بالمناسبة، قد يكون أقرب إلى المنطق والعدالة من معيار كبار المودعين وصغارهم، ومن معايير الفترات الزمنية المحدّدة وفق مصالح محدّدة أي ما قبل أو بعد 17 تشرين!
على كلّ حال، لن نسمع الكلام الأقرب إلى الحقيقة على الأرجح إلا ممن يريد أن يذهب، لا من يريد أن يأتي. أي ممن يريد أن يلعن هذا المجتمع لا ممن يريد أصواته. كما من الخطأ الرهان أصلا على "نواب تغييريين". من يصنع التغيير الفلاسفة الذين يبدعون أفكاراً جديدة للخروج من الأزمات. وهؤلاء هم أنفسهم في أزمة هذه الأيام لأن أحداً لا يحترم آراءهم (السلبية عامة) في المجتمع!
في مختلف الأحوال، لن تكون مهمة الفلاسفة ولا السياسيين ولا الوزراء والنواب ولا الأفراد الفرديين سهلة أبداً في المرحلة المقبلة. الكلّ سيواجه مشكلات من الآن وصاعداً، متناقضة وبالغة التعقيد، متراكمة وطويلة المدى، ولكن للأسف، لن يكون بالمستطاع مواجهتها إلا بمنطق المدى القصير والاستثمار السريع... هذا المنطق نفسه الذي كان سبب معظم مشكلاتنا المذكورة!