العالم يحترق. النار تضرب أينما كان. الحرائق تساوي بين البلدان المتقدّمة وغير المتقدّمة، بين البلدان الغنية وتلك الفقيرة، بين دول متمكّنة وتلك الفاشلة، بين المستعمرين ومستعمراتهم. تغيّر المناخ وحّد العالم بالنار. فبينما تسجّل ارتفاع درجات الحرارة أرقاماً قياسية في أوروبا والشرق الأوسط وتزيد من حدّة حرائق الغابات، يظهر التطرّف المناخي في الصين أيضاً وتتساقط أمطار غزيرة وتتسبّب بطوفانات وفيضانات وإجلاء للسكان في كلا المكانَين في الوقت نفسه! صدقت التقارير الدولية الستة الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المتعلقة بتغيّر المناخ التي صدرت تباعاً منذ أكثر من ربع قرن. وصدقت حتى الأمثال الشعبية القائلة «يا حريق يا غريق يا مشحشط عالطريق».
دخل العالم في حلقة جهنمية مغلقة. تغيّر المناخ وارتفاع درجات حرارة الأرض يزيدان من الجفاف ومن حرائق الغابات أينما كان، وزيادة الحرائق تتسبّب بانبعاثات تزيد من حرارة الأرض ومن تغيّر المناخ كما تساهم في إضعاف دور الغابات التي كانت بمثابة بواليع للكربون المتراكم في الغلاف الجوي. ولذلك يتوقع الخبراء المشاركون في هذه التقارير أن تسجّل أرقاماً قياسية في كلّ سنة من الآن فصاعداً، في سيناريو تراجيدي لا يمكن التكهّن إلى أين سيصل.
لا تقضي الحرائق المتكرّرة على التنوّع البيولوجي الضروري للحياة فقط، ولا تختصر بالتسبّب بانقراض الكثير من الأنواع التي نعرفها وتلك التي لا نعرفها بعد، بل تتسبّب أيضاً بزيادة الجفاف وتراجع الإنتاج الزراعي والاقتصادي عامة.
كانت الدراسات منذ عام 2015 قد توقعت في حال زيادة حرارة الأرض درجة واحدة (وقد تمّ تجاوزها الآن) أن تؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي بين 20 و 30%. وقد توقعت دراسات هذا العام أن تصل درجات الحرارة في أوروبا إلى 45 درجة، مع العلم أن متوسط درجات الحرارة كان 9 درجات، بينما المتوسط الأنسب للنمو يجب أن لا يتجاوز 13 درجة. يتراجع النمو كلما ارتفعت درجات الحرارة إذاً، وهذا ما يؤدي إلى تراجع الإنتاج، بالإضافة إلى تراجع حركة النقل وزيادة كلفتها (في أوروبا عندما ينخفض منسوب مياه الأنهار تتوقف حركات النقل وتذهب إلى البر بأكلاف أعلى) ما يتسبّب بزيادة كلفة استهلاك الطاقة والمياه وزيادة كلفة الفاتورة الصحية. تتسبّب زيادة الحرارة بوفاة الكثير من المسنين ومن المصابين ببعض أمراض التنفس، كما تؤثر زيادة الحرارة ليلاً بشكل سلبي جداً على الصحة العامة وعلى إنتاجية الفرد في اليوم التالي لأنها تؤثر سلباً على راحة الجسم… بالإضافة إلى أن زيادة حرارة الأرض قد تكون مفيدة ومنشّطة للكثير من الفيروسات التي نعرفها والتي لا نعرفها والتي يمكن أن تتحوّل إلى أوبئة وجوائح على طريقة فيروس كورونا، إلخ.
كل شيء سيتغيّر إلى الأسوأ مع تغيّر المناخ. لبنان لن يكون بعيداً عن الآثار السلبية المتوقعة. التأثيرات بالغة السلبية ستطال كلّ القطاعات ولا سيّما القطاع السياحي شتاء بسبب ذوبان الثلوج. الكثير من أنواع الزراعات ستتأثر سلباً. الطلب على المياه سيزداد صيفاً، وفاتورتها سترتفع أكثر وأكثر.
سوء السياسات ستظهر آثارها أيضاً يوماً بعد يوم. لم تأخذ وزارة الطاقة والمياه تاريخياً، ولا أخيراً، بالدراسات والتوصيات التي تحدثت عن تغيّر المناخ وزيادة تبخّر المياه والجفاف. وبدل أن تذهب إلى تعزيز التخزين الجوفي للمياه الذي برعت الطبيعة في لبنان في عمله، ذهبت سياسات سماسرة مشاريعها إلى التخزين السطحي فوق الأرض بعكس اتجاهات الطبيعة وقوانينها وعرّضت ما تنجح في تخزينه للتبخر والتلوث مع ارتفاع درجات الحرارة… إذا نجحت. منحت الأولوية في سياساتها لإنشاء السدود السطحية بأكلاف وديون ضخمة… وتمّ تجاوز النصائح بمنح الأولوية لوقف الهدر في الشبكات ووقف السرقة والاتجار بالمياه السطحية ومياه الآبار… على إنشاء السدود! والآن تشكو الإدارات المعنية، بعد فشل معظم السدود السطحية في جمع المياه، من الهدر في الشبكات لتبرير انقطاع المياه عن الناس!
وإذ يرجّح زيادة الطلب على المياه، وعدم تمكن الإدارات المعنية من إيصالها إلى الناس، لأسباب متعدّدة ذكرنا بعضها، يفترض وضع خطط طوارئ تقوم على إصلاح الشبكات ومراقبة وتغيير الشبكات والعيارات وضبط الهدر والسرقة وتوزيع ما هو متوفر بشكل عادل بين الناس.
حرائق الغابات في لبنان بدأت باكراً هذا العام، وهي بالرغم من كثرتها، لم تصل إلى ذروتها المتوقعة في تشرين، حسب الإحصاءات السابقة.
وزير البيئة ناصر ياسين اهتم بشكل مبكر وغير مسبوق بموضوع الحرائق في لبنان هذا العام. وأطلق الحملات لاستنهاض البلديات والتوعية والتنبيه من خطر الحرائق… بالرغم من ضعف، لا بل انعدام الإمكانات المادية والبشرية على كلّ المستويات. وقد كان لافتاً إعادة طرحه مع البلديات فكرة إعادة إحياء ما كان يسمى تعيين النواطير في القرى، مهمتهم مراقبة الأحراج المعرّضة للحرق، ومراقبة مفتعلي الحرائق لأي سبب كان وتجار الحطب والمخالفات… والتعويض عن عدم تعيين مأموري الأحراج لمواكبة حالة الانهيار الشاملة التي تواجه المؤسسات كافة في لبنان والتعامل مع حالات الطوارئ، لكي لا تصل النيران إلى المنازل وتتسبّب بكوارث إضافية يمكن الاستغناء عنها بأبسط الإجراءات. من هذه الإجراءات غير المكلفة كثيراً الوقاية عبر التشحيل المسبق لموسم الحرائق ومحاولة الاستفادة من نواتج التشحيل لصناعة «الكومبوست» ومخصبات التربة، أو لتحويل المنتجات إلى حطب مضغوط بديل عن قطع الأشجار. وثاني هذه الإجراءات غير المكلفة كثيراً أيضاً، المراقبة، عبر تعيين النواطير كما أسلفنا. وهي أفكار كانت مطروحة منذ أكثر من ربع قرن لم يؤخذ بها، وقد انبهر البعض بأفكار تتعلق بجمع الأموال والتبرّعات الكبيرة لشراء طائرات إطفاء، لم تكن نافعة بعد ساعات من بدء الحرائق، كما هي الحال من تجارب لبنان والعالم. لا بل لم تكن عملية شراء الطائرات نافعة بالمطلق إذ تم استيرادها مستعملة وكانت ستصبح خارج الخدمة! وقد تأكد كثر من المتابعين أنه كان يمكن الاستغناء عنها واستخدام التبرعات السخية آنذاك، للوقاية والمراقبة، بعدما تأكدوا أيضاً أن التأخر في التدخل في بداية الحريق، إذا لم يكن هناك مراقبة، يعني ذلك أن لا حواجز أمام النار في ظل التغيّرات المناخية، إلا عندما تأكل كلّ شيء أو عندما تمطر.
الكلّ يعرف ويعترف بالوضع السيّء في لبنان الآن. ولكن من المرجّح أن يكون أسوأ بكثير إذا أضيفت إلى حالة الشلل واللامبالاة والانهيار… الكوارث المناخية المتوقعة، لا سيما زيادة الحرارة والحرائق وزيادة الطلب على المياه. ولذلك يجب وضع خطط طوارئ متكاملة تشارك فيها وزارات متعدّدة معنية في حكومة تصريف الأعمال، تناقش الإشكالات المذكورة وغيرها، وتضع خطط الطوارئ لمعالجتها أو محاولة التكيّف معها.