"الشكليات ستقتلنا". هذا كان عنوان لمقال منذ ربع قرن تقريباً، ينطلق من تقدير كلفة أغلفة السلع الشكلية وغير الضرورية على الاقتصاد والطبيعة. بالأمس عاد موضوع كلفة الشكليات والكماليات ليطغى على النقاشات وعلى المشهد السياسي الغربي، بعدما أعلن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في مؤتمر صحافي ضرورة التخلي عن ربطة العنق الرسمية للمساهمة بخفض استهلاك الطاقة، نظراً إلى ما تسبّبه هذه الربطة المشدودة على العنق من ضيق، ومن زيادة ارتفاع حرارة الجسم والتعرّق… وبالتالي زيادة الحاجة إلى التكييف واستهلاك الطاقة، في وقت تمرّ فيه بلاده بأزمة ارتفاع درجات الحرارة وأزمة النقص في إمدادات الطاقة في آن، بعد الحرب الروسية -الأوكرانية. وفي الوقت نفسه تقريباً، حصل انقسام في البرلمان الفرنسي بين مطالب بالتخلي عن اللباس الرسمي وبين مطالب بالمحافظة عليه، بين يسار مطالب بضرورة التخلي عن ربطة العنق لأسباب اقتصادية، وبين يمين مطالب بالمحافظة عليها لأسباب شكلية وبروتوكولية. ليس غريباً أن تأخذ ربطة العنق كلّ هذه الأبعاد والضجة في عالم تخلّى، منذ الثورة الصناعية، عن اعتبار الزيّ، حامل وظيفة الواقي من موجات الحرّ أو البرد، إلى أداة للأزياء والموضة ذات كلفة عالية جداً على الاقتصاد والبيئة والموارد والمناخ العالمي.
لم تُنشر دراسات بعد، حسب علمنا، عن مدى التوفير المحقّق من الاستغناء عن ربطة العنق. ولكن في تقديرات الأمم المتحدة، حسب دراسة صادرة منذ أكثر من عامين، تستهلك صناعة الموضة (المقدّرة بمئة مليار قطعة ثياب سنوياً) الكثير من الموارد والمصادر الخام. تحتاج الملبوسات القطنية إلى الكثير من المياه والكيميائيات كما هو معلوم. أما الملبوسات المشتقّة من مواد نفطية، فلها آثار لا تقلّ فداحة وتتسبّب جزيئاتها بعد غسلها، بتلوّث كيميائي خطير جداً في الأنهار والبحيرات والبحار والمحيطات. بالإضافة إلى التلوّث الفادح الناجم عن استخدام الصباغ الكيميائي لهذه الصناعة التي تتطلّب تغييرات دائمة في الألوان والشكليات. كما يصدر عن صناعة الموضة ما يقارب 10% من الانبعاثات العالمية (بما يعادل انبعاثات الرحلات الجوية والبحرية حول العالم) المسبّبة بتغيّر المناخ وبهدر ما يقارب 20% من المياه… وينتهي أكثر من 85% من الأقمشة المقدّرة بـ92 مليون طن سنوياً من النفايات في المكبّات العشوائية أو المحارق الملوّثة للهواء.
وعندما كانت بعض البلدان الغربية تتشدّد في ضبط ملوّثات هذه الصناعات، كان القائمون عليها ينقلون بعض مراحل الإنتاج والتصنيع الوسخة إلى البلدان النامية والفقيرة، استغلالاً للمواد الخام فيها وللتفلّت من إجراءات ضبط الانبعاثات والملوّثات الصلبة والسائلة المكلفة، ولتوفير المياه التي تستهلكها تلك الصناعات بكميات كبيرة، إذ تستهلك صناعة الجينز الواحد، على سبيل المثال 7500 ليتر من المياه!
كان العالم الصناعي المخملي قد بدأ يتراجع عن فكرة "الفخامة" في استخدام صناعة الجلود في فرش السيارات الفخمة… بعدما كان يفاخر أصحاب السيارات هذه برائحة جلود فرشها. كانت صناعة سيارة واحدة مثل "رولز رويس" أو "الرنج روفر" ذات فرش جلدي كامل تتطلب جلود ما يقارب 12 بقرة، مع ما تحتاج إليه تربية الأبقار من حبوب وأعلاف ومياه وقطع غابات لزراعة هذه الأعلاف! وقد بدأت منذ فترة عمليات استبدال هذه الجلود بأخرى نباتية ولا سيما من نبات البامبو ذات الألياف الكثيف والقوية، ولا سيما في صناعة السيارات الكهربائية الفخمة أيضاً. ولا نعرف إن كنا في حالة انتقال من كارثة إلى أخرى حين ننتقل من سيارة تعمل على الوقود الأحفوري المشكوّ من انبعاثاتها ومن نوعية جلدها إلى سيارة كهربائية نباتية تحتاج صناعة البطاريات فيها إلى أتربة نادرة تلوث البيئة والمياه في استخراجها! ولم يعد معلوماً والحالة هذه، إذا كانت السيارة الكهربائية الفخمة، هي المدخل الصحيح للخروج من الشكليات القاتلة، طالما لم نتخلّ عن فكرة القيادة الخاصة للسيارات وأخذ مساحة فردية من الطرقات العامة، ناهيك عن التباهي بالنوعية والرفاهية الفردية. مع العلم أن مشكلة الشكل قد تكون أخطر من مشكلة الفعل أحياناً. فعندما يصبح الشكل هو القيمة، تصبح السيارة الفخمة مثل ربطة العنق الخانقة تماماً. وهذا ينطبق أيضاً على الأغلفة الجميلة للسلع التي تفوق المحتوى كلفة وحجماً أحياناً كثيرة.
هل يعقل أن الأناس "الرسميين" لا يعرفون أن ربطة العنق تخنق؟ أو أنها أصبحت مكلفة على الاقتصاد والصحة والطاقة؟ وكأن العالم، بالرغم من ما يصيبه من كوارث، لم يستطع أن يتخلى عن الشكليات والكماليات والفخامة… حتى الموت.
ليست ربطة العنق هي وحدها التي تخنق. حرائق الغابات حول العالم في السنوات الأخيرة باتت خانقة أيضاً. أسعار الطاقة أو فقدانها باتت خانقة. أسعار الدواء وفقدانه أيضاً. ارتفاع أسعار المياه العذبة وندرتها، ستخنق. نظام حضاري مسيطر بكامله بات خانقاً. اشتدّ الخناق كثيراً حول رقبة الإنسان الحديث الذي تربّى على الشكليات.
أليس التدخين من الشكليات والكماليات أيضاً؟ كان البروتوكول الغربي ينزعج من "التطبيس" وإصدار أصوات أثناء تناول الطعام… ولا يعلن انزعاجه من التدخين بالقرب من الناس، مع أن التدخين السلبي يقتل مثل التدخين الفعلي تماماً، ولا سيما في الأماكن المغلقة والخانقة. وكان البروتوكول يقضي بقول صباح الخير أو مساء الخير قبل المباشرة بالكلام في أي موضوع. ولكن لماذا نستمر في قولها الآن إذا لم يعد هناك من خير وبتنا نختنق من كل شيء؟! أليس التخلي عن التفخيم والشكليات هو المدخل لفك الطوق عن رقابنا. فلو كان التصبيح بالخير هو الذي يجلب الخير، لكنا الآن في أفضل حال. فالخير، في طبيعته، يكون عاماً أو لا يكون. فكيف سيصل المجتمع الغارق في فرديته، المجتمع الذي مجّد الشكليات والفرد أن يحقق الخير العام؟ لطالما كانت العلاقة المتناقضة بين الجوهر والمظهر محل تأملات عند كبار الفلاسفة عبر التاريخ، وتم تغليب الجوهر كقيمة على المظهر عندهم، حتى جاءت ما يسمى "الثورة الصناعية" وقلبت المقاييس. لقد احتاج كثرة التصنيع والإنتاج إلى الشكل والتلاعب به من أجل التسويق والبيع، ضمن قواعد اقتصاد السوق المسيطرة. وحين أصبح حبّ الاقتناء هو الغالب على حبّ الاكتفاء، بدأ العالم يشهد شكلاً جديداً من أشكال الاختناق، يكاد يكون مهدّداً هذه المرة لديمومة النوع الإنساني نفسه.
فهل تكون الحملة شبه الدولية للتخلي عن ربطة العنق مدخلاً للتغيير نحو التفتيش عن العمق والجوهر في حياة الإنسان ما بعد قوانين البروتوكول وما بعد عصر الموضة والأزياء المكلف جداً على الطبيعة والنوع الإنساني؟ أم هي استمرار لنهج تعظيم الجزء على حساب الكلّ أو كحيلة واعية (أو لا واعية) لنسيان الكلّ؟!