كان بإمكان لاعب الفنون القتالية شربل أبو ضاهر ولاعبة الشطرنج ناديا فواز أن يبارزا «إسرائيلياً» ويعودا إلى لبنان و«لا مين شاف ولا مين دري». لكنْ «الطفلان» (15 عاماً و12 عاماً) قرّرا: «لن نلعب مع إسرائيلي». ما حصل أكبر من تسجيل موقف معادٍ للتطبيع، وأعمق من خسارة نقطة في جولة أو اجتثاث الحلم بالبطولة. هو درس يلقّنه الصغار للكبار الذين لا يخجلون من «إحراج» الشباب العرب واستضافتهم إلى «موائد» يجالسهم فيها «الإسرائيلي»، غير عابئين «بالسمّ» الذي يدسّه، فيدعون إلى «السلام معه» أو «الحياد عنه»
شربل أبو ضاهر
بحماسة، توجّه ابن الخمسة عشر عاماً شربل أبو ضاهر إلى الإمارات العربية ليشارك للمرة الأولى ببطولة العالم للفنون القتالية المختلطة للناشئين التي أقيمت في أبو ظبي. أما والده، جوزيف، فكان متوتراً وخائفاً من اللحظة التي سيضطرّ فيها إلى الوقوف بين احتمالين: إما الاستمرار في اللعب طمعاً بالبطولة، أو الانسحاب طمعاً بمبدأ «عدم الاعتراف بلاعب إسرائيلي».

اقتنع شربل بقراره عندما أشاد به السيّد حسن نصر الله

وكان جوزيف مصيباً في خوفه، لأنه استيقظ صبيحة يوم المباراة على «كارثة» تغيير الجداول ووضع شربل في مواجهة لاعب «إسرائيلي»، وآخر إماراتي، وآخر أميركي. اعترض جوزيف وطلب من الاتحاد الدولي للفنون القتالية المختلطة MMA تعديل الجدول، فرفضوا. ثم تدخل عضو المكتب التنفيذي للاتحاد وأمين سر الاتحاد اللبناني وسام أبي نادر، فرفض طلبه هو الآخر. حاول المدرب «الإسرائيلي» أن يفاوض جوزيف فامتنع عن محادثته، واتصل بالمديرية العامة لأمن الدولة التي أعطت توجيهاتها: «لا تلعبوا».
يقول جوزيف: «دخلت إلى غرفة شربل لأخبره بأننا سننسحب من اللعبة التي تمرّن سبعة أشهر ليشارك بها. فغضب كثيراً ولم يتقبّل بداية فكرة عودته إلى لبنان، تاركاً حلمه في أبو ظبي». لكن، عندما هدأ واستمع إلى الحجة التي «تستحق تضحية كهذه»، تقبّلها، وشيئاً فشيئاً آمن بها، «وخاصة عندما ذكرني السيد حسن نصر الله بالاسم وأشاد بموقفي في كلمة له، بينما كنت لا أزال في الإمارات»، وغذّى شعوره بالرضى الذاتي استقباله بحفاوة في مطار بيروت أثناء عودته، ودعوة أكثر من شخصية بارزة في حزب الله شربل ووالده بشكل خاص لحضور مهرجان «أبجدية النصر» الذي أقيم احتفالاً بمرور 40 عاماً على تأسيس المقاومة. عندها شعر بأنه فعلاً «بطل».
نسأل ابن الخمسة عشر عاماً عمّا يعرفه عن «الإسرائيلي»، فيجيب: «الإسرائيلي لاعباً أو غير لاعب هو إنسان مؤذٍ ومجرم»، لذلك لم يلعب معه «حتى لا يعترف بوجوده وليسجّل موقف احترام للوطن والشهداء والمظلومين في لبنان وفلسطين».
لم تكن هذه المسابقة الأولى التي يشارك فيها شربل. فهو لست سنوات بطل لبنان في الفنون القتالية «الكونغ فو» ولسنتين بطل لبنان في الفنون القتالية المختلطة MMA. منذ أربع سنوات، حاز المرتبة الأولى في مسابقة بطولة البحر المتوسط في «الكونغ فو». وها هو يستعدّ لبطولة العالم «بالكونغ فو» في أندونيسيا.
يتمرن شربل على الفنون القتالية منذ أن كان في الخامسة من عمره، على يد والده الذي يدرّب على الفنون القتالية والدفاع عن النفس طوال 35 عاماً، ويعطي الدروس لجهاز أمن الدولة منذ سبع سنوات. ومع أن شربل يخطط لدراسة الهندسة الميكانيكية وتعديلها في هندسة الطيران، «ستبقى الفنون القتالية هواية أمارسها وأدرب الآخرين عليها في المستقبل مثل والدي».

ناديا فواز
لا يمكن لأحد أن يتوقع أن يكون حظّ ناديا فواز (12 عاماً) سيئاً إلى حدّ أن يأتي اسمها لمبارزة اللاعب «الإسرائيلي»، الوحيد بين 400 لاعب في مهرجان أبو ظبي الدولي الرابع المفتوح للشطرنج. أو ربما كان حظاً جميلاً رسم لها صورة انطبعت في عقول اللبنانيين ووجدانهم عن الطفلة «البطلة» التي خسرت الجولة الرابعة لأنها رفضت مبارزة إسرائيلي، وتستعدّ لخوض الجولات الأربع ضمن المسابقة.

سبقت ناديا والدها إلى رفض مواجهة «إسرائيلي»

ذهبت ناديا إلى أبو ظبي برفقة شقيقها محمد (13 عاماً). أثناء السحب، فوجئت بأن التصنيفات وضعتها بمواجهة اللاعب الإسرائيلي إيليا غروزمان. اتصلت بوالدها وأخبرته بتصنيفات اللعبة. لم تنتظر ردّه الذي سيكون حتماً «لا تلعبي»، بل سبقته برفض قاطع لمبارزة «إسرائيلي»، أثناها عليه. «فناديا ابنة بلدة شحيم وابنة ضابط في الجيش اللبناني تغذّت على كره المحتل الإسرائيلي»، كما يقول أحد أفراد عائلتها لـ«الأخبار»، لذلك رغم صغر سنّها تستطيع التمييز بين الصديق والعدو وتحدّد مواقفها على هذا الأساس.
عندما تلقّف الخبر، اتصل والدها برئيس الاتحاد اللبناني للشطرنج خالد بديع الذي تواصل بدوره مع الحكم وطلب إعادة القرعة فرفض امتثالا لقانون الاتحاد الدولي للشطرنج الذي تجده عائلة ناديا «مجحفاً» لأنه يمنع رفض اللعب مع أي لاعب أو اشتراط ذلك حتى قبل البدء بالمباراة.
منذ سنة ونصف سنة، تتمرّن ناديا في النادي الأهلي صيدا للشطرنج مرة في الأسبوع بسبب أزمة المحروقات التي تعرقل وصولها ووصول مدربها اللاعب أحمد نجار. إلى ذلك، تتدرّب لساعات طويلة في المنزل الذي يسكنه صوت أحجار الشطرنج. فوالدها لاعب شطرنج في فريق الجيش اللبناني، شارك ببطولات عدّة «وأورثها عشق اللعبة التي يربطها المجتمع اللبناني بكبار السنّ ممن يلعبونها في المقاهي، علماً بأنه في الهند مثلاً تجد ابن الست سنوات بطلاً عالمياً».
بدأت ناديا تلعب الشطرنج عن عمر يناهز الثمانية أعوام، متأثرة بوالدها وشقيقها اللذين يربحان جولات ويحصدان الميداليات. وحازت لقب بطلة لبنان لفئة 12 عاماً إناث عام 2021، وبطلة العرب لفئة عشر سنوات عام 2020، والمرتبة الثالثة عربياً في بطولة العراق في آذار عام 2020 حيث حصدت الميدالية البرونزية، عدا عن ألقاب خاصة بلعبة الشطرنج.
رفض الحكم إعادة القرعة امتثالا لقانون الاتحاد الدولي للشطرنح


«موقف ناديا المشرّف» الذي غطّته وسائل إعلامية وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي مدّ العائلة بالفخر وجرعة أمل في بلد يكسوه اليأس والإحباط. تتمنّى «ألّا يكون هذا الدعم الوطني الذي يثلج القلوب تجاذبات سياسية». هي تعرف أن في لبنان طاقات، لكنها تأسف على الظروف التي تكبّل أيدي الشباب، ضاربة مثلاً عن «لاعب تأهل إلى أولمبيات الشطرنج العالمية في الهند لأنه من الثلاثة الأوائل في لبنان، إلا أن فقدانه لتأشيرة المغادرة جراء الأزمة الاقتصادية في لبنان منعه من المشاركة».