مرة جديدة، يتم دهس أحد «النكّاشين» في مكبات النفايات (مطمر الجديدة). مرة جديدة، تتوقف الأعمال وتبقى النفايات في الشوارع في بيروت والضواحي لإيجاد «حل أمني» لقضية «النكّاشين» في مكبات النفايات الذين يبحثون عن ما هو ثمين للبيع!ماذا يعني ذلك؟ أن للنفايات قيمة يستقتل عليها الناس؟ لماذا هناك أزمة نفايات إذاً؟
هل يؤشر ذلك إلى زيادة الفقر إلى حدود خطيرة أم يؤشر إلى ارتفاع قيمة النفايات إلى حدود غير طبيعية؟
في كل الأحوال، لا يفترض أن يكون الحل أمنياً بالطبع. الاستنتاج أو الحل الأساسي الذي يفترض البحث عنه في هذه الحالة، هو محاولة الإجابة على سؤال: إلى أين تذهب المواد التي يبحث عنها النكاشون حتى الموت؟ وأين وما هو سوقها؟ وكيف يمكن تنظيم عمل هؤلاء بدل قمعهم؟
كان مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 21 نيسان من هذا العام قد أجاز لمجلس الإنماء والإعمار التفاوض مع الشركة التي يراها مناسبة لتنفيذ مشروع إنشاء وتشغيل خلايا طمر جديدة في الأراضي المستخدمة مقابل منطقة الجديدة على أن تدفع المستحقات بالدولار المصرفي، وعلى أن يُشترط في التعاقد تأمين «سياج للحماية الأمنية»! بعد ذلك تعاقد مجلس الإنماء والإعمار مع شركة (S. J. K) التي قدّمت عرضها لتنفيذ المشروع بتاريخ 13/5/2022 بقيمة تسعة ملايين و270 ألف دولار أميركي، والتي قُدرت كلفة «الحماية الأمنية» للموقع (إنشاء سياج والتعاقد مع عناصر بشريين للحماية) بأكثر من 816 ألف دولار أميركي! في حال لم ينجح عناصر البلديات وأمن الدولة في توفير «الحماية»! فهل يعقل، في بلد منهار، يبحث بعض سكانه عن ما هو قابل للبيع في أكوام نفاياته، أن يكون هناك من هو مستعد لدفع ما يقارب المليون دولار لحماية المكبات، بدل استخدام جزء من هذا المبلغ لتنظيم عمل هؤلاء، وأخذ المفروزات من المنازل إلى مراكز التجميع، ضمن خطط بلدية لا تستلزم غير وضع برامج للفرز في المصدر وتوظيف هؤلاء النبّاشين النكّاشين بجمعها نظيفة وبقيمتها الأعلى عند البيع، للتوفير في كلفة المعالجة؟!
كانت وزارة البيئة في وقت سابق قد نظّمت ورشة عمل بحثت فيها مع المعنيين الجدوى الاقتصادية من إعادة التصنيع، استطاعت فيها جمع أبرز المصنّعين في إعادة التصنيع مع بعض الجمعيات التي تفرز أو تجمع المواد القابلة لإعادة التصنيع، محاولة في الوقت نفسه، حل إشكالية سوق المفروزات، ولا سيما أن البعض بات يفضل تصديرها، فيما تستورد بعض مصانع إعادة التصنيع نفايات الكرتون من الخارج، على سبيل المثال! إلا أن المفاجأة كانت أن أحداً من كبار تجار الخردة والمفروزات لم يشارك في الاجتماع، ما اعتُبر مؤشراً إلى وجود أرباح كبيرة ومنافسة قوية، لا أحد يريد أن يكشفها ويتداول بها في آن، ولا سيما بعد أن سمع هؤلاء أن هناك من يعمل على تنظيم البيع.
أخذت أزمة النفايات في لبنان تاريخياً أوجهاً كثيرة، تبدو هذه الحوادث آخر مظاهرها. ماذا بعد حالة الانهيار الشاملة التي ضربت كل القطاعات ومنها قطاع النفايات؟ ما الذي ينتظرنا بعدُ من مآسٍ؟
لطالما تم انتقاد خطط الطوارئ لإدارة النفايات، حتى وصلنا إلى حال أسوأ بكثير من حال الطوارئ! إنها حالة الانهيار الشامل والإفلاس التام. كان بعض المُغرّر بهم يطمحون لمعالجة النفايات بأغلى الأثمان بمئة دولار للطن بعد إنشاء المحارق، واليوم لم يعد بالمستطاع دفع بدل الكنس والرمي العشوائي بأقل من عشرة دولارات للطن! كان عدد المكبات العشوائية وفق آخر إحصاء يتجاوز 1200 مكب على طول الأراضي اللبنانية، ولا أحد الآن يعرف عددها بعد أن أضيف أكثر من مكب في المناطق (يتم إحراقها بين وقت وآخر لكي لا يكبر حجمها) وبعد أن تحولت المطامر الرسمية في الجديدة والكوستابرافا إلى مكبات أيضاً!
كانت لجنة البيئة النيابية برئاسة النائب غياث يزبك قد عقدت اجتماعاً الأسبوع الماضي بحضور وزير البيئة ناصر ياسين، للتداول في كيفية تجنب بقاء النفايات في الشوارع وزيادة المكبات العشوائية. استباقاً للأزمة، لناحية وصول مطمر الكوستابرافا إلى السعة القصوى في غضون أقل من سنة ونصف سنة، ومطمر الجديدة في أقل من سنة بعد التوسعة الأخيرة. بالإضافة إلى مشكلة زيادة مكبات المناطق ومحاولات إحراقها الدائمة للتقليل من حجمها، ما يهدد الصحة العامة من جهة ويتسبب بحرائق للأحراج المجاورة. طُرحت في هذا الاجتماع كل القضايا المتعلقة بهذا الملف المعروفة، القديمة منها والحديثة، مثل عدم قدرة الدولة على دفع مستحقات المتعهّدين وعدم قدرة البلديات أيضاً.
وزير البيئة طرح خمس إشكاليات سلبية تعيق إدارة هذا الملف، منها ما يتعلق بالسلوكيات على المستويات الرسمية والشعبية، ومنها ما يتعلق بتعطّل المعامل إن بسبب انفجار المرفأ، أو تلك المموّلة معظمها من الاتحاد الأوروبي، أو بسبب مشاكل الحوكمة وتعدد المتدخّلين وضياع المسؤوليات التي حاول القانون 80/2018 معالجتها، بالإضافة إلى كلفة التشغيل التي لا يوجد إطار بعد لاستردادها، ثم مشكلة التخلص النهائي للنفايات بعد كل المعالجات بوجود المطامر التي تم رفضها في كل مكان. إلا أنه حاول أن يظهر بعض الجوانب الإيجابية التي يمكن المراهنة عليها مستقبلاً، مثل مبادرات الجمعيات الصغيرة للفرز ووجود شركات صغيرة ناشئة التي تعمل على الفرز أيضاً. بالإضافة إلى وجود معامل (وإن متعثرة) في كل المناطق اللبنانية، باستثناء مناطق مرجعيون وحاصبيا وبشري والكورة التي ليس فيها أي نوع من المعامل.
كما أعلنت النائبة بولا يعقوبيان في الاجتماع عن تقدمها بمشروع قانون يسمح للبلديات بأن تبيع نفاياتها، لتسهيل عمليات الفرز وإعادة التصنيع من خلال بيع المواد القابلة لإعادة التصنيع. وهنا طُرحت إشكاليات عدة تتعلق بكيفية استرداد كلفة المعالجة، وهل يكفي بيع المواد المفروزة لتغطية كلفة المعالجة؟
طُرح في هذا الاجتماع أيضاً أن يتم تحصيل 200 ألف ليرة شهرياً، كرسم بلدي، من كل مسكن على الأقل، تتصاعد مع كبر المساحات. مع أن الضريبة الأمثل يجب أن تكون على الوزن وليس على المساحة. ومن لا ينتج نفايات لا يدفع. ومن ينتج (يفرز) موادّ قابلة لإعادة التصنيع أو صالحة للتخمير (وإنتاج المخصّبات العضوية)... يُحسم سعرها من الضريبة. هذه الإشكاليات والأفكار ستكون مدار جدل في المرحلة القادمة، وهي مؤشر إلى أن فكرة الاقتصاد الحقيقي القائم على التوفير (والاقتصاد الدائري) بدأت تأخذ مكانها في النقاش وتنتظر أطر التنظيم. إلا إذا كان هناك من لا يزال يراهن على السوق إياه، الذي يستطيع أن ينظّم نفسه بنفسه.