لا يخطئ تطبيق الخرائط الهاتفي في إيصال مستخدمه إلى جبل محسن. الشوارع الضيقة التي لا تسمح بمرور أكثر من سيارة مرصودة من قبله، تسير فيها إلى أن تظهر المشاهد العسكرية الرسمية، مع شبه ثكنات للجيش على جانبَي الطريق يمرّ الداخل إلى المنطقة من بينها.لا تزال آثار المعارك بين جبل محسن وباب التبانة بادية على جدران الأبنية. الرصاص جعل من البيوت «مناخل»، وقذائف يمكن تتبع انفجاراتها من انتشار الشظايا على الشرفات، وأبنية مداخلها شبه مدمرة. لم تنته الحرب هنا، أو هكذا يبدو، على الرغم من هدوء المعارك وسيطرة أصوات السيارات والباعة على الطرقات، فنظرة بسيطة وخجولة نحو سطوح الأبنية، على طرفي المنطقة، تظهر بوضوح «الشوادر»، على السطوح، التي «تُستعمل من قبل القناصين للتخفي، أو وضعها ناس ليتمكنوا من التحرّك في أملاكهم من دون التعرّض للرصاص»، بحسب سكان أحياء خط التماس، الذين ينصحونك أيضاً بـ«عدم التأشير بيدك أو النظر مطولاً نحوها».

الأمن الهش
لا يزال النفس الأمني مسيطراً بين الناس، فما إن ظهرت الكاميرا لتوثيق الشواهد و«الشوادر»، حتى نادى علينا شخص بلباس مدني من بعيد، مستفسراً ومدققاً في البطاقات الصحافية، لنكتشف لاحقاً أنّه عسكري من أهل المنطقة. بعد التعارف، أفاد العسكري بأنّ «الحذر واجب». ولو سألت عن أسباب جولات القتال لن تجد إجابةً شافيةً بين شباب حملوا السّلاح يومها. أحدهم يقول إنّه «دافع عن منطقته»، وآخر يعيدها إلى «الثارات القديمة».
«روقوها ومش رايقة»، بحسب مختار الجبل علي عجايا المعروف بـ«علي الثورة». يروي تاريخ المنطقتين (التبانة وجبل محسن) اللتين انفصلتا خلال الحرب الأهلية بعدما كانتا منطقة واحدة هي «باب التبانة»، والتي كانت تشكل ثقلاً كبيراً للأحزاب اليسارية والقوى الثورية قبل أن يجري تفريقها طائفياً، وتدميرها بتغذيتها بالسّلاح لطرفي النزاع.

شباب واقتصاد
خلال ساعات الظهيرة، في أحدى المقاهي الشعبية، تحلق عدد من الشبان ينفخون دخان نراجيلهم، يتكلمون وعيونهم لا تفارق شاشات هواتفهم. «لا أعمال هنا»، يردّ أحدهم على سؤالنا حول سبل تمضية الوقت، ويضيف آخر «هذه القهوة مركز تجمعنا، من الظهيرة وحتى آخر ساعات المساء». ويعيد سبب عدم وجود أشغال إلى «منعنا من العمل في منطقة التبانة عامة». هي الأقرب إليهم نعم و«لكن السؤال عن الهوية وارد هناك في أيّ لحظة ما يعرّضك للخطر». من جهة أخرى، «الذهاب نحو زغرتا للعمل أو قرى الشمال صعب بسبب بُعد المسافات». وعليه، يجد ابن الجبل نفسه من دون عمل، ومحاصراً بخيارات منطقته السّياسية والمناطق المجاورة. ولكن لا يمكن التعميم، آخرون وجدوا الحل بالنزوح، فرحلت عائلات بأكملها نحو قرى جبيل أو حتى بيروت للعمل.
الوضع الاقتصادي العام في الجبل أفضل بنسبة ضئيلة من جارته باب التبانة، هنا حال الأبنية أفضل، باستثناء تلك المواجهة لخطوط المواجهة. وحتى شكل المحال التجارية وطبيعتها في الجبل تشير إلى مستوى اقتصادي لا يلامس خط الفقر بشكل تام. هذا الأمر يعيده «علي الثورة» إلى «مغتربي الجبل الذين ينعشون أهاليهم بالتحويلات المالية الخارجية»، بالإضافة إلى «أهالي المنطقة الذين انتقلوا صوب بيروت والمدن اللبنانية الأخرى، وساعدوا في تنمية المنطقة». ويعيد أيضاً «الانتعاش المادي النسبي» الذي شهدته المنطقة قبل الأزمة الاقتصادية إلى «انهيار امبراطورية الأحزاب، وانكفاء المقاتلين، ما أعاد بعض الجمعيات وما رافقها من أعمال».