في 13 تشرين الأول الماضي، تفاجأ جيران غابة خندق الرهبان في بعبدا، التي تبلغ مساحتها 11 هكتاراً، بوصول جرّافة (جنزير) إلى مدخل الغابة من ناحية بلدة بطشاي، ليتبيّن أنّ العمل على تنفيذ مشروع توسيع طريق عام بطشاي - بعبدا ناحية الغابة قد بدأ. وقد استحصل أصحاب العقار 541، الذي يعود لوقف دير مار أنطونيوس بعبدا، ملك الرهبنة الأنطونية المارونية، على موافقة وزارة الأشغال العامة في 6 أيار 2022 لتنفيذ المشروع وفقاً لمعايير وزارة الأشغال ومواصفاتها وتحت إشرافها، شرط المحافظة على البيئة والالتزام بمعايير السلامة العامة كافة. لكنّ الجرافات تعدّت حدود الغابة الخارجية، ودخلت إلى عمقها، من دون أن تملك ترخيصاً لشقّ طريق داخلية في منطقة مصنّفة مهمة للتنوّع البيولوجي.
غابة خندق الرهبان (الأخبار)

أصل المشكلة أن أصحاب المشروع حصلوا على رخصة شق طريق عام من وزارة الأشغال، ورخصة قطع نحو 120 شجرة من وزارة الزراعة، قبل دراسة تقييم الأثر البيئي المستوجبة لمشاريع توسيع الطرق، خاصة في منطقة مصنّفة حساسة بيئياً، وفي موقع خطر «نظراً إلى وجود شير كلسي مرتفع جداً مهدّد بالانهيار على الطريق الرئيسية، ما يشكّل خطراً على السلامة العامة»، وفق رئيس جمعية الأرض- لبنان بول أبي راشد. ويشرح: «هذا المشروع سيدخل في جبل علوّه بين 24 و28 متراً وسيقضم منه 5 أمتار، ومن يضمن أن يجري بناء حائط طوله 30 متراً لتدارك انزلاق الجبل؟ كما سيقطع المشروع 120 شجرة في وقت نحلم فيه بأن تصير غابة خندق الرهبان محمية طبيعية».

مخالفة قانونية
من الناحية القانونية، يُعدّ مشروع توسيع الطريق تعدّياً صارخاً على مرسوم حماية البيئة ورقمه 8633/2012، الذي يمنع القيام بأي مشروع قبل دراسة الأثر البيئي، عدا تجاوز قانون حماية البيئة 444/2002 باعتبار الغابة مصنّفة مهمة للتنوع البيولوجي. كما أنه يخالف اتفاقية التنوّع البيولوجي التي صادق عليها لبنان عام 1994 والتي توصي بحماية التنوّع البيولوجي في المحميات وخارج المحميات. فقد خلصت استشارة علمية قامت بها مجموعة التنسيق الوطنية اللبنانية لمواقع التنوع البيولوجي، والمكوّنة من 15 أستاذاً جامعياً ووزارة البيئة ومن إعداد البروفسور د. غسان الجرادي، لتقييم وضع الغابة إلى أن «الغابة بحاجة ماسة إلى حماية لأنها مهمة جداً للطيور وغنية بالتنوّع البيولوجي».

«الغابة مهدّدة بالزوال»
وفي التفاصيل، تلفت الاستشارة إلى أن الغابة، عدا أنها تمدّ المقيمين بالهواء النقي والغني بالأوكسيجين والمنظر الخلاب، «تشكل نظاماً بيئياً يؤدي خدمات غنية بأنواع عالمية الأهمية وبجينات وراثية حية، منها ما هو مهدّد بالانقراض ومنها ما لا يوجد في مكان آخر». ويظهر التنوّع البيولوجي في غابة خندق الرهبان في بعبدا لدى مقارنة تنوّع النباتات البرية في الهكتار الواحد فيها بباقي المحميات. لذلك تشدّد الاستشارة على أنّ «أيّ ضرر يلحق بجزء من الغابة سيقضي على التوازن البيئي ويهدّد باقي أجزاء الغابة»، معزّزة رأيها بالتذكير أن «الغابة هي جيب من بقايا الماضي، فبحسب العلوم البيئية المتعارف عليها لا يمكن لغابة مساحتها فقط 11 هكتاراً أن تحتوي على هذه النسبة من الكائنات الحيّة المتنوّعة إلا إذا كانت في الأصل غابة كبيرة تقلّصت مع الزمن وأصبحت جيباً، كما هو الحال في بعبدا التي انحسرت غابتها وتقلّصت بعدما هاجمها البشر بمبانيهم». وتختم بالتهديد: «الغابة سريعة العطب إلى درجة أنها أصبحت منطقة ليس فقط حسّاسة بل مهدّدة بخطر الزوال».

وزارة البيئة تتحرّك
ما إن رُكنت الجرافات في مدخل الغابة، وقبل أن تبدأ أعمال الحفر، علت أصوات الناشطين البيئيين وجيران الغابة لإغاثتها، وأرسلت جمعية الأرض - لبنان كتاباً إلى وزير البيئة ناصر ياسين تناشده لحماية غابة خندق الرهبان في بعبدا وإنقاذها، من خلال تجميد أعمال الحفر فوراً لعدم توفر دراسة الأثر البيئي. وفعلاً، تقدّم ياسين بإخبار أمام المدعي العام البيئي في جبل لبنان القاضي فادي ملكون الذي أوقف الأعمال إلى حين إجراء جميع الدراسات المتعلقة بالأثر البيئي. ويوضح ياسين لـ«الأخبار» أنّ «الجرافات باشرت العمل داخل الغابة وليس على الأطراف فقط»، وأكد أنه «حتى لو كان بحوزتهم ترخيص لشقّ طريق عام، فهذا ممنوع قبل دراسة الأثر البيئي»، مشدّداً على ضرورة عدم التهاون في التعامل مع أقرب غابة طبيعية من بيروت مسمياً إياها «رئة بيروت».

أهداف استثمارية؟
ومع دخول الجرافات إلى قلب الغابة خرجت مخاوف من أن يكون خلف مشروع شقّ الطريق العام أهداف استثمارية تضرب عرضَ الحائط بالأضرار البيئية. فيسأل أبي راشد ما إذا كان «الهدف التمويه للعبث في الغابة، وشق طريق داخلية وهو ما حاولوا فعله من قبل؟» ويذهب أبعد من ذلك في قلقه من أن يكون الهدف «فتح الطرق مجدداً أمام إنشاء محطة للوقود عند مدخل الغابة، وهو المشروع الذي طُرح عام 2017 وانتهى بمنع تنفيذه بعد نضال ناشطين بيئيين دام أربع سنوات».



البلدية: تصحيح مسار الطريق
ننقل هذه المخاوف إلى بلدية بعبدا - اللويزة، فيجيب المهندس روني أحوش على الشكل الآتي: «الهدف هو توسيع طريق رئيسي، وهو مسؤولية وزارة الأشغال العامة التي أعطت الموافقة. لو أنه طريق داخلي لوقعت المسؤولية على عاتقنا، والعقار هو ملك الدير لذا لديهم حرية التصرّف به». نسأله عن الضرر البيئي فيقول: «لقد حصلوا على الموافقة بقطع الأشجار، وإن كان هناك ضرر وجاءت الموافقة عليه، ماذا عساي أن أفعل؟». نذكّره بقرار البلدية عام 2020 بوضع العقار 541 المعروف بغابة خندق الرهبان قيد الدرس، ما يعني تجميد أي ترخيص للتصرّف به قبل أخذ القرار بشأنه، كذلك بالدور الذي أدّته البلدية عام 2021 عندما أوقفت ترخيص بناء محطة للوقود، فيجيب: «هذا شيء آخر كلياً، في ذلك الوقت كانت هناك علامات استفهام حول المشروع، أما اليوم فالغاية واضحة وهي تصحيح مسار الطريق العام الذي لم ينشق قديماً بمساره الصحيح، ما أدى إلى دخول 5 أمتار والآن سيردون الـ5 أمتار إلى أصحابها».

إدارة الدير: «المُلك لنا»
صحيح أن الغابة هي ملك خاص للرهبنة الأنطونية، لكننا لا نتحدّث عن أرض عادية في وقت طبيعي، بل عن آخر غابة طبيعية قريبة من بيروت. إلا أن الخطاب العام ولا سيما على لسان الدير لا يجد في الغابة غير عقار خاص، إذ يؤكد رئيس دير مار أنطونيوس الحدث بعبدا الأب نادر نادر أن «الغاية من المشروع تصحيح الطريق العام على مدخل الغابة، ما يستدعي الدخول بين الخمسة والسبعة أمتار إلى داخلها وذلك لإنقاذ بناية تعود ملكيتها للدير أيضاً توقف العمل بها لأن الطريق العام تعدى عليها»، أما الجرافات التي دخلت الغابة فهي «للتنظيف وإزالة اليابسة فقط». ويختم حديثه بالسؤال: «هذه بنايتنا، ونصحّح أرضنا وعلى نفقتنا، فأين المشكلة»؟ ثم يذكر أن «مشروع تخطيط الأوتوستراد العربي الذي يأتي من الشام عندما يُنفّذ سيمرّ بـ60 إلى 70% من الغابة أصلاً». يرفض الوزير ياسين هذا الحديث، «فنحن نحترم الملكية الخاصة لكن لا نستطيع تخطّي الضوابط البيئية»، واعداً بعقد حوار مع الرهبنة الأنطونية للتفكير في آلية لحماية الغابة.

الأشغال والزراعة تتراجعان
يوضح مستشار وزير الأشغال العامة محمد جشي أن «الوزارة تلقّت مرسوماً من مجلس الوزراء لإعطاء الموافقة على المشروع، ووقّعنا على هذا الأساس. لكن بعد ورود شكوى من ناشط بيئي عن عدم وجود دراسة أثر بيئي، وتأكدنا من الأمر، طلبنا التوقف عن العمل».
وضمن المسار نفسه، وصل الملف إلى وزارة الزراعة، التي اعتبرت أن توقيع وزارة الأشغال يعفيها من دراسة الأثر البيئي، فوافقت بدورها.
وزير البيئة يؤكد أن احترام الملكية الخاصة لا يعني تخطّي الضوابط البيئية

يقول مدير الثروة الحرجية في وزارة الزراعة شادي مهنا أن «الملف وصل إلينا كما لو أنه علق في عنق زجاجة»، مؤكداً أهمية الأثر البيئي للمشروع والحرص على عدم الاعتداء على مساحات خُضر ولكن «الطلب الذي تقدم به المعهد الأنطوني يستوفي الشروط وليست هناك إمكانية للعرقلة، إذ حصل على الموافقة من جهة رسمية».
لكن، ماذا لو أظهرت دراسة تقييم الأثر البيئي للمشروع ضرراً بيئياً يستوجب التوقف؟ كيف نعيد الأشجار التي قُطعت؟ يصرّ مهنا على أنه «إذا حصلوا على رخصة لا يمكنني قانونياً الوقوف في وجههم».



التنوّع البيولوجي في الغابة
خلصت استشارة علمية لتقييم وضع غابة خندق الرهبان - بعبدا، ووضع تنوعها البيولوجي في الإطارين المحلي والعالمي، صادرة في 22 كانون الأول عام 2020 عن مجموعة التنسيق الوطنية اللبنانية لمواقع التنوع البيولوجي والمكونة من 15 أستاذاً جامعياً ووزارة البيئة من إعداد البروفسور د. غسان الجرادي إلى ما يأتي:
• تضمّ الغابة ما يزيد عن 425 نوعاً من النباتات، أي 11.21% من نباتات لبنان البرية البالغ عددها 3790 نوعاً. ومنها 5 أنواع متفرّدة، أي لا تتوفر في أي مكان من العالم سوى في لبنان، و67 نوعاً طبياً، و109 مطبخية، و83 معسلاً يستخدمه النحل لصناعة العسل.
• تحتوي على 12 نوعاً من الثدييات في لبنان، البالغ عددها 59 أي بمثابة 20.31% منها، بما فيها خفاش الثمار المصري شبه المهدّد بخطر الانقراض على مستوى منطقة البحر المتوسط.
• تضم 171 نوعاً من طيور لبنان البالغ عدد أنواعها 404، أي بنسبة 42.33%، و7 منها مهدّدة بالانقراض عالمياً و10 محدودة الانتشار الجغرافي. وتعدّ الطيور نواة أهمية الغابة. فهناك 46 نوعاً من هذه الطيور يفرّخ في الحرج، سواء كان قاطناً أو وافداً وهذا العدد يعادل 40% من أنواع الطيور المعششة في لبنان. هذا العدد، ومهما كانت نسبته المئوية هو من أكبر أعداد أنواع الطيور في العالم المجتمعة في موئل محدد.
• في الغابة 66% من البرمائيات البالغ عددها 6 أنواع في لبنان، و26% من الزواحف وعدد أنواعها في لبنان 54، منها السلحفاة البرية اليونانية والسحلية الأنيقة المهدّدتان عالمياً بالانقراض على مستوى منطقة البحر المتوسط