على مدى عقود، تراكمت مشكلات القطاع الزراعي في البقاع وسط إهمال من الحكومات المتعاقبة، وسطوة كبار المزارعين والتجار وتحكمهم بالأسواق التصريفية، ومتطلبات الزراعة على أشكالها من أدوية وأسمدة وكيماويات، ليُضاف إلى كلّ ذلك انهيار الليرة أمام الدولار، ورفع الدعم عن المازوت، وهي المادة التي باتت تشكل العبء الأبرز على لائحة الأكلاف الزراعية.نتيجة لهذا الواقع، رفعت غالبية المزارعين مع بدء هذا الموسم، لواء الزراعات البعلية التي لا تحتاج إلا لعدّان أو عدّانَيْ مياه كحد أقصى، مثل القمح والشعير، أو المزروعات التي لا تحتاج إلى ريّ بكثافة كالبطاطا... فيما استمرّت قلّة في زراعة البصل والثوم، بسبب كلفتها المرتفعة. في المقابل، هناك من اعتكف تماماً رافضاً الخوض في «مغامرة خاسرة».

تجنّب الخسارة
كاظم حيدر، أحد المزارعين في غربي بعلبك، آثر زراعة أراضيه بالقمح والشعير بدلاً من البطاطا والبصل بعد الخسارتَين المتتاليتين اللتين مُني بهما خلال الموسمين الماضيين. «الله رحمنا وما بعنا أرضنا وبيوتنا من ورا البطاطا»، يقول. كلفة الريّ أحد الأسباب التي دفعته لتغيير أنواع زراعته: «يحتاج ريّ المزروعات خلال ساعتين، إلى صفيحتَيْ مازوت سعرهما مليونَي ليرة. وتحتاج كلّ من البطاطا، أو البصل، أو الثوم إلى الريّ بمعدّل 15 إلى 16 ساعة، لتصل الكلفة إلى 30 مليوناً لكلّ عدّان أسبوعياً. فكم يمكن أن يكلّف ريّ الموسم كاملاً؟». يشرح ما يواجهه المزارع من خلال تجربته: «اشتريت البذار والأدوية والكيماويات والمازوت بالدولار، على سعر 21 ألف ليرة في مثل هذا الوقت من العام الماضي. وعندما آن أوان قلع البطاطا وبيع الإنتاج وقعنا في فخ التجار وتحكمهم بالأسعار، وغياب حماية دولتنا الكريمة، ومن بعدها صدمة الدين المترتب عليها والمطلوب إيفاؤه على سعر 37 ألفاً. كيف تتوقع مني أن أعيد الكرّة وأنا أعرف أن الخسارة ستتكرّر؟».
جعفر زعيتر، مزارع آخر تخلّى عن زراعة البصل ونثر حقوله الزراعية بالقمح والشعير، مضيفاً إلى كلفة مازوت الريّ «الحاجة إلى عمّال للتعشيب والقلع في ظلّ ندرة العمال السوريين، وإن وجدوا فقد صاروا يطلبون أجرتهم بالدولار أيضاً».
لا يخفي زعيتر أن موسم البصل للعام الماضي كلّفه، «بين بذار وأدوية وأجرة عمّال، ما يقرب من الـ6550$ لمساحة 15 دونماً. حتى الزراعات البعلية ارتفع سعر بذارها وأكلافها». معدّداً كلفة بذار القمح الذي اشتراه بالدولار وبسعر يقارب الـ500 دولار، والشعير، وحراثة الأرض والحصاد، والأكياس والخيش، «وفي النهاية تأتي الدولة وتتدلّل، تارة تشتري القمح والشعير لكنها تتأخر في دفع ثمنه، وتارة لا تشتريه رغم حاجة السوق إليه ويكون خيارنا البيع بأسعار أقلّ وبالتالي تكون الخسارة قد وقعت».
بدوره، تخلى المزارع علي شومان عن الزراعات المكلفة واكتفى بالخيم البلاستيكية لزراعة الخضر بأنواعها وبحسب متطلبات السوق «هكذا أكون قد قلّصت الأكلاف لأن الزراعات التقليدية باتت للمجانين فقط».

حلول أخرى
في المقابل، يؤكد المزارع راضي حيدر أنّه لن يتخلى عن زراعة البطاطا والبصل على الرغم من كلفتها الباهظة، مبرّراً السبب بأن شريكه من كبار المزارعين «ويعتمد على التخزين للحصول على أرباح تغطي النفقات، ولولا ذلك لتخليت عنها كما الكثيرين». ذلك أنّ «كلفة ريّ 270 دونماً تصل إلى مليارين وأربعمائة مليون ليرة. كيف سأوفرها أو أسدّدها لاحقاً؟».
يرى الذين اختاروا زراعة القنّب الهندي أنّه الخيار الأصح في هذا البلد


الجدير ذكره أن عدداً من المزارعين ذهبوا باتجاه خيار الأشجار المثمرة باستحداث بساتين زراعية بمساحات محدودة، سعى آخرون لضمان أراض زراعية قريبة على مجرى نهر الليطاني لتأمين ريّ مزروعاتهم من بطاطا وبصل وثوم وقمح وشعير وحتى خضر بمياه الصرف الصحي و«بهذه الطريقة تتخلص من كلفة الكيماويات والمازوت بكميات كبيرة» كما يقول أحد المزارعين.
بين كلّ هؤلاء ثمة مزارعون آخرون تخلوا منذ سنوات طويلة عن الزراعات التقليدية واختاروا نبتة القنب الهندي كخيار صعب ولكنه بحسب رأي مزارعي الحشيشة «الخيار الأصح بهيك بلد». يدافع مزارع الحشيشة عن خياره الذي اتخذه بعد فشل الدولة في تأمين زراعات بديلة ناجحة ومعالجة المشكلات الزراعية «يعني أبيع بيتي وأرضي وأنا أنتظر الدولة لتحنّ علينا بمساعدة أو دعم؟ زراعة الحشيشة لا تكلفنا إلا البذار الذي نؤمنه من موسمنا الماضي، وفلاحة الأرض مع عدّانَيْ مياه، وعند الإنتاج يشتري التاجر المحصول من دون أن نتكلّف عليه ليرة لقصّه أو نقله، وبلا هم المازوت والأدوية والكيماويات و التخزين».