كبرت غلوريا عاماً، بلا أمها. صارت تمشي وتنادي شقيقاتها بأسمائهن... وصارت تنادي بابا. ترى، هل نادت الصغيرة ـ التي كانت في الشهر السادس عندما قُتلت والدتها رلى يعقوب ـ ماما؟ هل قالوا لها ما الذي حلّ بأمها؟ هل فهمت واخواتها الصغيرات ما الذي يحصل؟ أسئلة كثيرة تثقل رأس ليلى الخوري، والدة رلى، المتعبة من غيابين: موت ابنتها الوحيدة، وحرمانها من رؤية حفيداتها الخمس منذ حادثة مقتل والدتهن.
لا تخرج ليلى الخوري من دائرة الأسئلة. في كل يوم تستيقظ على سؤال جديد: كيف صار وجه غلوريا؟ هل تشبه والدتها؟ وتنام بلا أجوبة.
لا تعرف الجدة كيف صارت حفيداتها ولا كيف يعشن، فالمسافة التي تفصل بين بيتها في حلبا وبيت والدهن لا يمكن قياسها بالأمتار، كما الفواصل بين بيوت عادية، ففي حالة أم رلى، التي فقدت وحيدتها، ثمة ما هو أصعب من الأمتار. ثمة «من يمنعني من رؤية حفيداتي»، تقول. تشتاق إليهن، ولكن «كل الظروف اجتمعت كي تمنعني من رؤيتهن، في مقدمها الفقر، وثم وضعي أمام المعادلة الصعبة التي تسمح لي برؤيتهن مقابل إسقاط الدعوى عن والدهن في قضية مقتل ابنتي، وهذا أمر صعب عليّ كأم، لأن اللي ماتت بنتي مش حيوان».


الوالدة المفجوعة تنتظر منذ ستة أشهر إحدى الكلمتين: نعم أو لا
هي لن تفعل ذلك، وإن كانت تتحرق لرؤيتهن «لأن بدي شمّ ريحة بنتي». مع ذلك، ستعضّ المفجوعة على جرحها وتكمل حياتها كما تفعل في كل يوم منذ عام. تستمع إلى أخبارهن من الجيران و»المحبين». نتف أخبار تجمعها إلى بعضها لتكوّن قصة. هكذا، مثلاً، عرفت أول من أمس أن الصغيرة «صارت تسبح، قالولي إنو بيّن آخدهن على مطعم بمنيارة لياكلوا ويسبحوا». تكتفي الجدة بهذه النتف. الفقر الذي منع أم رلى من المطالبة بحفيداتها، شبيه تماماً «بالظلم» الذي يحرم الأم التي فقدت وحيدتها من التعويض برؤية أولادها. لا شيء أقسى من ذلك. وتصبح الحياة أكثر صعوبة، عندما تنتظر الوالدة «الأمل من القضاء، فلا يأتيني، والله العظيم ما عم كذّب، جسمها على الجنبين أزرق من الضرب». تستعيد ادق التفاصيل المتعلقة بظروف موت ابنتها، ولكن الأمل بتحقيق العدالة يشح يوماً بعد يوم، فبعد القرار الظني الذي جاء «مخيباً» ـ بالنسبة لأم رلى ـ عندما «منع المحاكمة عن زوج المغدورة»، ها هي اليوم تنتظر، بلا أمل، قرار الهيئة الاتهامية ببت طلب استئناف القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق في الشمال آلاء الخطيب. وهو الطلب المقدّم أمام الهيئة منذ ستة أشهر، والذي لم يأت جوابه إلى الآن.
هذا الجواب كان يفترض، بحسب القانون، أن يأتي في مهلة عشرة أيامٍ فقط. فما الذي يحصل هنا؟ فلنبدأ من القانون أولاً، بحسب المادة 136 من «أصول المحاكمات الجزائية»، يتوجب على «الهيئة الاتهامية أن تفصل في استئناف قرار قاضي التحقيق في مهلة عشرة أيام على الأكثر من وقت إيداعها الملف». فما الذي يؤخر ردّ الهيئة الاتهامية؟ علماً أنه ردّ بسيط، فإما الموافقة عليه «ليعود للدعوى مفعولها الناشر، كما تتحرك دعوى الحق العام مجدداً»، أو رفضه بالشكل وفسخه. لا خيارات كثيرة، إما نعم وإما لا. الأمر بهذه البساطة، إلا أن التأخير ستة أشهرٍ كاملة، يرسم كثيراً من علامات الاستفهام. تلك العلامات التي يطرح بعضها محامي عائلة الضحية ريمون يعقوب ومتابعون آخرون لقضية يعقوب.
يشير مصدر قضائي إلى أن الطلب «قيد الدرس، كل ما في الأمر أن المستشارين يعملون على درس الملف بطريقة متأنية كون القضية حساسة، على أن يصدر القرار قبل بدء العطلة القضائية»، إلا أن لعائلة الضحية أسباباً للخوف من هذا التأخير، فهناك اعتقاد راسخ بأن ثمة «ضغوط تمارس على القضاء ليسكروا قضية ابنتي»، تقول الوالدة ليلى الخوري، وهو ما تنفيه مصادر الهيئة الاتهامية. وثمة من يقول همساً بأن رئيس الهيئة الاتهامية في الشمال «محرج» من ملف الضحية رلى يعقوب، فهو «في نهاية الأمر عضو في مجلس القضاء الأعلى، ولا يستطيع أن يصدر قراراً قد يأتي معارضاً لما كان قد انتهجه مجلس القضاء الأعلى عندما دافع عن نزاهة القرار الظني، وفي الوقت نفسه لا يستطيع التغاضي عن بعض الحقائق في القضية التي صارت قضية رأي عام». وهذا أيضاً تنفيه الهيئة جملة وتفصيلاً، ولكنه سؤال يطرح.
وفي هذا الإطار، يشير مصدر قضائي آخر إلى أن الأمور ليست بهذا السوء. فبرأيه، كل ما في الأمر أن التأخير «عادي»، فقد تستوجب الدراسة تمديد المهلة. وهنا، نضيف سبباً آخر ربما، وهو أنه «في بعض المحاكم هناك ضغط بالملفات في ظل وجود إخواننا السوريين». ويشير إلى أنه في ما يخص موضوع «الملفات الجزائية فقد تضاعفت في بعض المحاكم بنسبة 100%، وهذا الأمر يؤثر ويصبح التأخير بالبت ببعض الملفات أمراً واقعاً». وربما، يصبح واقعاً، بلغة القضاء، أن تبقى ليلى الخوري معلّقة منذ ستة أشهر على إحدى الكلمتين: نعم أو لا.