على مقربة من منطقة «وسط بيروت»، أو ما يُعرف تداولاً بـ«سوليدير»، يقع مبنى «الحاسبيني» المؤلّف من طبقتين اثنتين. المبنى المتصدّع في منطقة «زقاق البلاط»، عُمل في السنوات الماضية على ترميمه وطليه من الخارج، ليتناسب مع خطة «سوليدير» وهي إخفاء أي مظاهر حولها قد «تتناقض» مع الصورة «الحضارية» التي أرستها بعيد إعادة إعمار هذه المنطقة. حظي المبنى كذلك باهتمام الجمعيات الأهلية والدولية بعيد تفجير المرفأ، عبر تركيب نوافذ زجاجية، كانت غائبة عنه قبلاً، ومشرّعة لعواصف الشتاء.
مهنة متوارثة!
قبل سنوات، انتقلت ملكية المبنى إلى عائلة «نجم»، وسرعان ما تحوّل إلى مكان لفرز النفايات، وإلى منامة للعمّال السوريين، إذ يشغل الطبقتين مجموعة عمّال من الجنسية السورية، يفوق عددهم السبعين شخصاً، يعملون في «نكش» النفايات في العاصمة، فيما خُصّص القبو المحاذي للشارع العام لفرز النفايات والتدقيق في وزنها، تحضيراً لبيعها. في القبو، مجموعة من الشبان لا تتجاوز أعمارهم الـ14 عاماً، منتشرين في غرفة تغصّ بأكوام النفايات، وتعبق برائحتها الكريهة. يقومون بـ«عملهم» من خلف مكتب خشبي قديم، موضوع على متنه ميزان وأمامه جرن نحاسي كبير مخصّص لفرز النفايات، فيما تتكدّس على الجانب الأيمن أكياس القمامة إيذاناً بأخذها للبيع.
يرفع المحامي ما يحصل من تشغيل للأحداث والأطفال إلى مصافّ الإتجار بالبشر


نسأل الشبّان عمّا يقومون به، وكيف يعتاشون من هذا العمل، وكيف يرون مستقبلهم. تختلط الإجابات وتتعدّد، إلا أن الخلاصة تختصر في أنّ هؤلاء الشبان قدموا من سوريا، إلى هذا المبنى بناءً على توصية عوائلهم وأقربائهم العاملين أيضاً في هذه المهنة. يتحدّث الشبّان عن «ارتياحهم واعتيادهم» على الوجود في بيئة النفايات، وتصالحهم مع أضرارها الصحية المباشرة «لدينا سخّان مياه ومراوح قد تخفف من هذه الأضرار»! مبدين اقتناعاً بالاستمرار في هذه المهنة التي يرون فيها عملاً دائماً «رح نكفي بهالشغلة». في طبقتي المبنى، يتكدّس بقية العمّال، إذ ينام في الغرفة الواحدة حوالي 14 شخصاً. وهم يتوزّعون على دوامين، ليلي ونهاري، لجلب النفايات من الحاويات، مخصصين عربات صنعوها بأنفسهم تضمّ صناديق بلاستيكية لجمع القمامة، تمهيداً لبيعها بعد الفرز سيّما في منطقتي «صبرا» و«شاتيلا».

عمالة الأطفال
لا يتوقف عمل «النكاشة» على تشغيل الأحداث وتعريضهم للخطر والأذية، بل بات مألوفاً مشهد طفل لا يتجاوز عمره الخمس سنوات، يلتصق بحاويات النفايات، كجزء من حياته اليومية. ويمكن لأي عابر سبيل أن يلحظ وجود الأطفال حول النفايات، وعملهم في تجميعها، وحتى اللعب فيها. يلتحق هؤلاء بآبائهم يومياً في أقرب حاوية إلى منزلهم، ويعملون على جمع القمامة وحملها بأكياس صغيرة على أكتافهم. أطفال بوجوه متّسخة وثياب رثّة، بات عالمهم الحاويات وروائح النفايات الكريهة، وما تنتجه من أضرار جسيمة على صحتهم ونشأتهم.
نسأل المحامي قاسم كريم، عن تشغيل الأحداث والأطفال في مثل هذه الأعمال، وإن كان القانون اللبناني يميّز بين طفل لبناني وطفل من جنسية أخرى يُعمل على استغلاله وتشغيله في أعمال خطرة، فيؤكد أن قانون العقوبات اللبناني لا يميّز بين الجنسيات المتواجدة على أراضيه. يرفع كريم ما يحصل على الطرقات أو خلف حاويات النفايات من تشغيل للأحداث والأطفال إلى مصافّ الإتجار بالبشر، خاصة مع المدخول الربحي الذي تؤمّنه أعمال «النكاشة»، وما تدرّه من عملات صعبة على جيوب المشغّلين، مقابل مبالغ زهيدة للعمال ولصغار السن، ويحيلنا إلى مقترح قدّمه إلى النيابة العامة التمييزية، عبر الطلب إلى «دائرة التحرّي» تقصّي مشغّلي هؤلاء الأطفال، إن كانوا من المتسوّلين في الطرقات أو العاملين في «النكاشة». يقوم المقترح على ملاحقة هؤلاء ومعاقبتهم بغرامة مالية وحتى سجنهم لأسبوع كامل، إذ تُعتبر هذه الخطوة برأيه رادعة لعودة الأطفال إلى منازلهم وإبعادهم عن الشارع والمخاطر الناجمة عنه.