«أنا انذليت»، بصوت يغلبه القهر يخبر سائق الأجرة ركّابه كيف توسّل الأطباء في اليوم الذي سبق، وحلّفهم بالله أن يدخلوا ابنته التي وُلدت حديثاً إلى المستشفى ومداواتها من الالتهابات ريثما يؤمّن الـ3 ملايين ليرة التي طلبوها، من دون نتيجة. حمل رضيعته التي انتظر مجيئها ست سنوات، وجرّ كرامته عائداً إلى المنزل.
«نحتفل بأقلّ حقّ»
وفيما يرثو البعض كرامتهم المهدورة في لبنان، يبحث آخرون عن مكان جديد لصون ما تبقّى لديهم من كرامة. فارس، مثلاً، يشعر بأن «كلّ يوم أقضيه في لبنان هو انتهاك صارخ لكرامتي». متى يحصل ذلك؟ «عندما يذلّني صاحب العمل ويعطيني أجراً لا يكفي لتغطية بدلات النقل». وهنا يروي ما يحصل معه من مواقف مذلّة خلال ركن سيارة، أو تعليق أحدهم على خط الكهرباء الذي يصل إلى منزله، وعدم احترام وجوده في الصف أمام محطات الوقود عند أزمة المحروقات (وهذا بحدّ ذاته إهانة) لأن المعتدي تحميه عشيرته أو بزّته العسكرية...
لا يظن إيلي أن «أي إنسان في لبنان قد يشعر بالكرامة». يجد أنّ حقه في السكن مهدور، و«صاحب المنزل لا ينفكّ يهدّدنا بالطّرد متى تأخرنا في دفع الإيجار»،. يتحسّر كيف صار امتلاك الحقوق البديهية بمثابة إنجاز يُحتفى به، «كأن نرقص عندما تأتي كهرباء الدولة ونركض لنلحق تنفيذ أعمالنا المجمّدة منذ أسابيع في ساعة واحدة كالغسيل والكوي ورفع المياه إلى الأسطح».
«بكاء أبي الستينيّ»
هناك من يعيشون صراعاً دائماً لحماية كرامتهم الشخصية على أرض الوطن. سكينة مثلاً، تعيد تلميع كرامتها كلما «دنّسها صاحب موتير اشتراك الكهرباء بتهديدي بالعتمة إذا اعترضت على فاتورته المضخّمة». وآمنة تتجنّب المرور من أمام مدرسة ابنتها حتى لا «تراني الناظرة وتطالبني بتسديد الأقساط المكسورة منذ العام الماضي»، لا تريد أن يتكرّر مشهد «إهانتي أمام طفلتي».
تخشى آمنة تكرار مشهد إهانتها أمام طفلتها لأنها لم تسدّد أقساط المدرسة
المرّة الوحيدة التي شعر فيها نادر أنه بلا كرامة هي لحظة أساء عناصر من قوى الأمن معاملة والده «بشكل فظيع» أمام عينيه في المخفر نتيجة خلاف بسيط، ما جعل والده، الرجل الستّيني، يبكي. «عندها شعرت بانتقاص كرامتنا نحن الاثنين». عدا ذلك، تجنّب نادر الوقوف في طوابير الذلّ أمام محطات الوقود والأفراد، ولأنه لا يملك وديعة في أحد المصارف أُعفي من إذلال المصارف المودعين. لكنّه غير مطمئن، كونه في اختبار دائم للحفاظ على كرامته فـ«دولتي لا توفر لي أدنى الحقوق، ومتى فقدت عملي أو مرضت أنا أو أيّ من أهلي سأُذلّ حتماً».
التحرّر كرامة
في المقابل، يربط البعض مفهوم الكرامة بالتحرّر من أي سلطة خارجية تمارس عليهم قسراً. برأيهم، بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، فتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، ثم إنهاء الوصاية السورية، وطرد الجماعات التكفيرية من الجرود، من المعيب أن نشكّ بانتقاص كرامتنا الإنسانية. «كرامتنا محفوظة ما دام في لبنان رجل اسمه حسن نصرالله»، يقول كمال، فـ«نحن قدّمنا الدم لهذه الغاية». ويذهب منير أبعد من ذلك في تدعيم فكرة صديقه: «نعيش مرحلة سطو على الحقوق وتدنيس الكرامات منذ قرون، وفي جميع المراحل والحقبات، وما دمنا اليوم نصارع الهيمنة الغربية لنحفظ حقوقنا، ولا نرضى بالإذلال، فهذا يشعرنا بأن كرامتنا محفوظة».
تأمين حقوق الناس
نسأل أستاذة القانون في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية عزّة سليمان عن ماهية الكرامة، ومن أيّ نستمدّ شعورنا بها، فتجزم أنّ «الكرامة الإنسانية لا تتجزّأ»، وتتحدّث عن علاقتها اللصيقة بتوفّر الحقوق: «عندما تتأمن الحقوق الأساسية الفردية والجماعية يشعر الفرد بكرامته». ولا تنحصر الكرامة، برأي سليمان، بالتحرّر من السلطة الخارجية، بل تولي أهمية كبرى لما توفره السلطة الداخلية وسعيها لحفظ الكرامات. تقول: «تطوّرت مفاهيم حقوق الإنسان وجرى تصنيفها وارتباطها بالكرامة نظراً إلى تطوّر دور الدولة الحديثة القائمة على القانون والمؤسّسات باعتبارها الراعية للحقوق. فسلطة الدولة يجب أن تضع القوانين اللازمة لحماية حقوق الناس ومعاقبة المعتدين عليها. أما عدا ذلك فهي ليست سلطة شرعية». وترى أن «في لبنان انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومؤسسات الدولة لا تقوم بدورها وهناك اعتداءات مستدامة على الحقوق والكرامة حتى من قبلها».