على هامش المناقصة التي أطلقتها مصلحة الأبحاث الزراعية، قبل أسبوع، لشراء 200 طن من بذار القمح الطري، بعد تأخر عن شراء القمح دام تسعة أشهر، توصّلت وزارة الزراعة إلى اتفاق مع منظّمة «الفاو» و«المنظّمة العربية للتنمية الزراعية»، يقضي بتقديم هبتين إلى لبنان بهدف توزيعها مجاناً على المزارعين. وقد قدّمت «الفاو» 178 طناً، بينما قدمّت المنظمة العربية 30 طناً، وكلتا الهبتين من بذار صنف «أكساد 1133». لكن يبدو أن هذا التطوّر الإيجابي لم يعجب رئيس المصلحة ميشال أفرام. فما إن تبلّغ بالهبة خلال اجتماع في وزارة الزراعة صباح أول من أمس، حتى خاطب هيئة الشراء العام، أمس، سائلاً عن إمكانية إلغاء المناقصة، مشدّداً في كتابه إلى الهيئة على انتفاء الحاجة إليها، طالما أن الـ 200 طن التي سبق للمصلحة أن طلبتها، جرى تأمينها.
الخطوة الأخيرة من أفرام ليست يتيمة طبعاً لعرقلة شراء كميات من البذور الزراعية للقمح، من ضمن خطة الوزارة تأمين جزء من دقيق القمح الطري المخصّص للخبز الأبيض، عبر إنتاجه محلياً (راجع الأخبار 6 كانون الأول 2022)، علماً أنّ دور مصلحة الأبحاث الزراعية ومهمتها وواجبها إنتاج هذه البذار، وغيرها من الأصناف المحسّنة محلياً من الحبوب والبقول والخضر والدرنيات، لتوزيعها على المزارعين (مجاناً أو بأسعار الكلفة) وليس شرائها من الخارج، وخصوصاً أن الأصناف التي طلبتها المصلحة، إن كان «أكساد 1133» أو غيرها من الأصناف من منظمة إيكاردا، سبق للمصلحة أن تسلّمت جزءاً منها من منظمات دولية أو عربية لتجربتها والإكثار منها.
وفي الأصل، يبدو الرقم 200 طن معيباً أمام الواقع الفعلي للأزمة. فجميع المؤشّرات والوقائع، منذ ثلاث سنوات على الأقل، تؤكّد دخول العالم والعالم العربي ولبنان تحديداً في أزمة غذائية أساسها القمح ومصادر السعرات الحرارية، وأزمة زراعية عمادها شحّ البذار والمدخلات الزراعية وارتفاع أسعارها، من دون أن تحرّك هذه الوقائع ساكناً عند الجهة المعنية أوّلاً في مواجهة الأزمة، ألا وهي مصلحة الأبحاث الزراعية.

طلب أقلّ من الحاجة
تبلغ حاجة لبنان سنوياً حوالي مليون طنّ من دقيق القمح المخصّص للخبز الأبيض، بحسب أكثر من دراسة علميّة، بينما لا يزيد الانتاج الحالي على 130 ألف طن. وفي خطّتها لهذا العام، أعلنت الوزارة غايتها الوصول إلى زراعة 200 ألف دونم بالقمح الطري. هذه المساحة لا تكفي لإنتاج أكثر من 100 ألف طن، إذا احتسبنا أن معدّل الإنتاج حوالي 500 كيلو للدونم الواحد، تضاف إلى الإنتاج الحالي، لكي يصل لبنان خلال سنوات إلى إنتاج ما يقلّ حتى عن ربع حاجته محلياً! وهذه الكمية، تحتاج إلى ما لا يقلّ عن 3 آلاف طن من البذار الزراعية، إذا احتسبنا أن كميّة القمح المطلوبة لزراعة دونم واحد من أصل 200 ألف، هي 15 كيلوغراماً من صنف «أكساد 1133»، بحسب المواصفات الفنيّة المعلنة للصنف من قبل منظمة أكساد.
وهذا يعني أن الـ 200 طن المطلوبة حالياً، لا تكفي سوى لزراعة 13 ألف دونم ولإنتاج ما لا يزيد على 6500 طن من القمح الطري! علماً أن هذه الأرقام متفائلة جداً، إذ إن المزارع اللبناني ينثر ما بين 20 إلى 25 كيلوغراماً في الدونم الواحد في الأراضي غير المرويّة، وخصوصاً مع شحّ الأمطار الحالي وصعوبة الحصول على مصادر مياه الرّي! أمّا اعتماد الرقم 200 طن في المناقصة من قبل الوزارة ومصلحة الأبحاث، فسببه شحّ الأموال المرصودة لشراء بذار «أكساد 1133»، والمحدّدة من قبل خبراء مصلحة الأبحاث.

من يحقق في ادعاءات أفرام؟
إذاً، بدل أن يستفيد أفرام من أن كمية البذار ستتمّ مضاعفتها من الهبتين ومن نتيجة المناقصة، من 200 إلى 400، لتوزيع كميات أكبر على المزارعين وتوسيع أعدادهم، وقيام المصلحة بالإكثار من هذه الأصناف، توجّه نحو طلب إيقاف المناقصة، وكل هذا يجري مع اقتراب نهاية موسم زراعة القمح والمزارعون ينتظرون!
يحتاج لبنان إلى 3 آلاف طن من البذار الزراعية لتغطية أقلّ من ربع الحاجة المحلية


ليس هذا فحسب، يتذرّع أفرام في كتابه بالأموال اللازمة لاستكمال المناقصة، سائلاً في كتابه عمّا إذا «كانت الأموال التي حُوّلت إلى أكساد قد تمت إعادتها»، في إصرار من أفرام على أن الوزير عباس الحاج حسن قام بتحويل الأموال إلى أكساد. وهنا يطرح السؤال، لماذا لم تتحرّك الهيئات الرقابية بعد للبحث في حقيقة ادعاءات أفرام وفتح تحقيق بالأمر، علماً أن منظمة أكساد كانت قد راسلت أفرام سابقاً بأنها لم تتلقّ أي مبلغ من مصرف لبنان. كما علمت «الأخبار» أن الحاج حسن أيضاً راسل وزارة المالية وطلب تأكيداً رسمياً على أنه لم يتمّ تحويل أي مبلغ لحساب أكساد. وحصل هذا اللغط بعدما كانت وزارة الزراعة في طور الوصول إلى اتفاق بالتراضي مع منظمة أكساد، لشراء 200 طن من صنفها «أكساد 1133» بناءً على اقتراح مصلحة الأبحاث الزراعية لهذا الصنف، كصنف وحيد مجرّب في المصلحة، قبل أن يعود أفرام نفسه إلى عرقلة الاتفاق.
لا يوجد تفسير منطقي لسلوك رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية الذي توجّه بكتابه الأخير إلى هيئة الشراء العام، ولا لوزارة الزراعة التي تتغاضى حتى الآن عن واقع أن برنامج إكثار بذار القمح متوقّف في المصلحة منذ مدّة، ويضطر البلد إلى تسوّل 200 طن من البذار!
صحيح أن وساطات التسوّل نجحت لهذا العام في تأمين كميّة خجولة، فكيف تفكّر المصلحة والوزارة بتأمين حاجة العام المقبل؟ من هو المسؤول عن هذا الاستهتار بالأمن الغذائي؟ أم أن المطلوب أن يبقى اللبنانيون عبيداً عند أصحاب المطاحن الكبرى وكارتيل القمح والحبوب؟