إن أخطر مظاهر الانهيار التي تضرب لبنان هو ما يصيب بيئته. هذه أول حقيقة يفترض تسجيلها بعد نهاية عام وبداية عام جديد من التوقعات السلبية. التراجع الدراماتيكي لم يبدأ بالطبع بعد 17 تشرين، هذا التاريخ الشماعة التي سرعان ما تذوب لتظهر الندوب. هو انهيار تمّ التأسيس له بشكل مباشر (وغير مباشر) منذ مدة بعيدة. بغضّ النظر (مؤقتاً) عن التوسّع في البحث في الأسباب، كيف يمكن التعامل مع حالة الانهيار الشاملة؟
التعاملات مع الكوارث وحالة الانهيار يفترض أن تنطلق من اتجاهين رئيسيين، اتجاه طارئ وفوري وآخر استراتيجي بعيد المدى.
لذلك، على خطط الطوارئ أن تنطلق من الموجود أولاً، ووقف الاستثمارات غير الضرورية (التي أصبحت الآن قصرية بفعل الأزمة الاقتصادية) مثل شقّ المزيد من الطرقات وإنشاء السدود ومعامل ومحارق النفايات والمعامل الحرارية لإنتاج الطاقة… بالإضافة إلى خطط وإجراءات تخفيض وترشيد الاستهلاك في أي شيء.
أما على المدى البعيد والاستراتيجي، فيمكن الاستفادة من حالة الانهيار لإعادة البناء على أسس مختلفة، أسس أكثر تواضعاً. وعلى وزارة البيئة في لبنان أن تتولى هذه المهمة بداية عبر وضع واقتراح استراتيجية بيئية شاملة (يُطلق عليها دولياً «استراتيجية التنمية المستدامة»)، تأخذ في الحسبان التقاطعات بين كلّ القطاعات المستثمرة والمؤثرة على البيئة. وهذا يتطلب أيضاً إعداد مشروع قانون جديد مع الأسباب الموجبة لتعديل قانون البيئة الذي أُقرّ بداية التسعينيات وتعديل هيكلية وزارة البيئة لتتماشى مع التطوّرات العالمية والإقليمية والمحلية التي حصلت، ومع الحالة المستجدّة ما بعد الانهيار الشامل. فهل يعقل، على سبيل المثال، أن لا يكون في هذه الوزارة مديريات ومصالح تُعنى بقضية تغيّر المناخ وبملفات مثل الطاقة المتجددة والتنقيب عن النفط والغاز والتقييم البيئي الاستراتيجي للمشاريع الكبرى بالإضافة إلى قضايا المياه وكيفية حفظ سلامة وديمومة الأنظمة الإيكولوجية؟!
في مرحلة ما بعد الانهيار، يجب البحث أولاً عن الأسباب وتحديد المسؤوليات للمحاسبة على المرحلة السابقة وعن التسبّب بحالة الانهيار. كما يفترض إبعاد الذين تسبّبوا بالجرائم البيئية والمالية والاقتصادية عن مرحلة إعادة التأسيس، فعبثاً نحاول مع مجرم لا يزال ينكر جرائمه وأن نطلب منه إعادة تأسيس مرحلة جديدة!
إعادة التأسيس هذه تحتاج إلى أناس جدد، يحملون رؤى جديدة وقيماً جديدة، أناس جدد مطعّمين بآخرين كان سبق أن حذّروا مما وصلنا إليه، يحملون رؤية لما بعد الكوارث ولما بعد الأناس الذين تسبّبوا بها. وإذ تتدرّج المسؤولية بين أصحاب مشاريع مادية وفكرية ثبت أنها مدمرة وأناس تبنوا هذه المشاريع أو انبهروا بها، أو استفادوا من مكتسباتها، يفترض أن يتقدّم أصحاب الرؤى الجديدة بأفكار وقيم جديدة لما بعد الإنسان القديم المسؤول عن الكوارث.
على أصحاب الرؤى الجديدة التنقيب أولاً عن البيانات والأرقام الحقيقية لأيّ شيء قبل السماح بالتنقيب عن المياه والنفط والغاز من جديد. أناس يعيدون تأسيس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على قواعد الحرية البيولوجية وقوانين الطبيعة، لا على القوانين التي صنعها نفوذ أصحاب المصالح تاريخياً. أناس تخطوا محاولة شيطنة الأفكار الشمولية، وقد تبنوا ما تتطلبه النظرة الشمولية الإيكولوجية، أي تلك التي تربط بين المعطيات والقوانين الطبيعية والنظم الإيكولوجية وبين النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تفكر أولاً في كيفية ضبط الحاجات قبل البحث في زيادة الاستثمارات… من دون الخوف في الوقوع في أصولية بيئية جديدة.
كما لا يفترض بإنسان ما بعد الانهيار أن يعود إلى نوستالجيا الدعوة للعودة إلى الطبيعة. فالطبيعة ما بعد الانهيار لم تعد طبيعية أصلاً. إنها مرحلة إدارة ما بقي بعدالة. أي ضمن قواعد العدالة البيئية والمناخية، التي تحسب حساب الأجيال القادمة أيضاً، ضمن معادلة التوفيق بين ما يتطلبه الإنسان من استثمارات في الطبيعة بدافع البقاء وما يجب تركه للأجيال الآتية من هذه الموارد أيضاً، بعدالة. إنسان جديد يعيد النظر بالنظام الأبوي السلطوي والتسلطي، ويعيد الاعتبار لدور المرأة المحوري في الحياة ويخفّف قدر الإمكان من التمييز على أساس النوع. إنسان جديد أكثر تواضعاً وأقلّ اعتداداً بموقعه بين باقي الكائنات، انطلاقاً من الاعتراف بأنه جزء منها وليس فوقها. ثم إعادة ترتيب العلاقة المتناقضة مع باقي الكائنات ولا سيما الحيوانية منها. فهل نريد أن ندلّل هذه الحيوانات ونؤاخيها ونجالسها على الكنبة لنشاهد معها التلفاز؟ أم نريد أن نربيها لنأكلها؟ أم نريد أن نخاف منها ونتحاشاها؟ أم نريد أن نبيدها؟ أم نريد أن نحوّرها جينياً ونتبادل معها أعضاءنا ونقبل بانتقال الأمراض بيننا وبينها ونتشارك معها وحدة الحياة والمصير؟!
ما بعد الكوارث والانهيارات سندخل في مرحلة جديدة تنهار فيها الحواجز بين الأنواع وتنهار الفجوة بين الطبيعة والثقافة أيضاً. عندها سندخل في لغة ومفردات جديدة وقيم جديدة وأسلوب عيش جديد… لغة جديدة تخلق ذاتيات جديدة ونظريات ما بعد اجتماعية أيضاً. نظريات وقيم تأخذ في الحسبان حياة باقي الكائنات غير الاجتماعية، أو توسّع من مفهوم «الاجتماعي» ليشملها.
فكيف نستعد لهذه المرحلة؟ أيّ خلفية فكرية جديدة وأي إطار سياسي جديد منظّم؟ أيّ أحزاب جديدة؟ وأي عقد اجتماعي ودستور جديد؟