في أيلول الماضي، سحب مجلس النواب من جدول أعماله مشروع قانون مكرّراً معجّلاً يهدف إلى تعديل المادة 68 من المرسوم الاشتراعي لنظام الموظفين، ويقضي برفع سن التقاعد للموظفين المدنيين من الفئات الأولى والثانية والثالثة من 64 إلى 68 عاماً. قانون قدّمه وقتها النائب بلال عبد الله، وخلّف انقسامات داخل المجلس النيابي، ليطمس اليوم، في وقت تقرّر فيه بلدان أخرى خوض رفع سن التقاعد، للاستفادة قدر الإمكان من الكوادر الوظيفية، وفي الوقت عينه، منحهم الأمل بأنهم ما زالوا في كامل نشاطهم وقدرتهم على الإنتاج.
عمل جديد
في لبنان، وبحسب أرقام «الدولية للمعلومات»، يقدّر عدد المتقاعدين من القطاع العام في لبنان بـ 120 ألفاً، غالبيتهم من المعلمين والعسكريين. هؤلاء اختلفت حيواتهم، وانقلبت رأساً على عقب في السنوات القليلة الماضية، بعيد تفشي وباء كورونا وتعاظم الأزمة الاقتصادية التي أهدرت حقوقهم كما باقي اللبنانيين. وفيق عليّان (70 عاماً) واحد من هؤلاء، الذين تضرّروا بعيد تقاعدهم. فقد عمل في «مؤسسة كهرباء لبنان» لأكثر من أربعين عاماً، واستحصل على التقاعد منذ سنوات قليلة. كان يعتقد بأن تقاعده والتعويض المالي الذي سيحصل عليه سيكفيه ليعيش مرتاحاً، وإذا بالأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة يثقلان كاهله مع باقي زملائه. يصف «أبو ربيع» تعويضه اليوم بـ«الصفر»، ووقوفه على أبواب المصارف بمثابة «الشحادة». يعتمد الرجل السبعيني على «مساعدات من هون وهون» ليعتاش منها، ومع ذلك، يتمسك بخيوط الأمل ويتطلع الى الحياة من جديد، مع عمله في محلّ تجاري مخصّص لبيع المونة في الجنوب اللبناني، وتقاسمه الأرباح مع صاحب المحل. عمل استطاع تحييده عن الجلوس في المنزل، المصير الذي لا يطيقه ويصيبه بالاكتئاب حسب قوله.

كابوس في ظلّ الأزمة
بدوره، شوقي عويدات، الرئيس السابق لقسم شؤون الطلاب في كلية «العلوم الاقتصادية» (الجامعة اللبنانية)، والذي تقاعد منذ عام ونصف عام، بعد عمل استمر لمدة 45 عاماً، يرى فكرة التقاعد «مقبولة»، قبل الأزمة الاقتصادية، ومصدراً للراحة، إلا أنها في الوقت الحالي تحوّلت إلى كابوس مع تردّي قيمة الليرة اللبنانية، وجشع المصارف والتجار. لم يدخل عويدات كما غيره من زملائه في نشاطات يومية وممارسة هوايات جديدة بعد التقاعد، بل أسهمت ظروف كورونا بثنيه عنها.
يجب أن يعلم كلّ موظف أنه رقم في عمله مهما علت رتبته الوظيفية

لعلّ تداخل الأزمة الاقتصادية مع تردّي أوضاع «الجامعة اللبنانية»، أسهما في زيادة النقمة لدى فئة المتقاعدين. فهؤلاء تدرّجت أزمتهم قبل سنوات قليلة، قبيل بلوغهم سن التقاعد، وأدخلتهم شيئاً فشيئاً في فلك تحمّل أعباء إضافية بعدما حفلت مهنهم بالرضى واعتبرت بمثابة «تجربة حلوة»، كما صرّحت لنا مهى شحادة التي تنقلت عبر سنوات عملها الأربعين في أقسام أمانة السرّ في كليات مختلفة في «الجامعة اللبنانية». تقول شحادة إنها لم تشعر بأنها تقاعدت بسبب دخولها قبلاً في موجة المناوبات في الجامعة. كما حال زميلها، أثّرت كورونا على حركة شحادة، فبات الجلوس في المنزل «الملاذ الآمن» لها، الى جانب قراءة الكتب، ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً بعدما انتهى المطاف براتبها إلى أن يتحوّل إلى مجرد قيمة لفاتورة تدفع لاشتراك مولدات الكهرباء، على سبيل المثال، تقول.

متقاعد «سعيد»
على الرغم من سوداوية المشهد، والأثر البالغ الذي خلّفته الأزمات الصحية والاقتصادية والحقوقية على قطاع المتقاعدين، فإننا لا شك نجد أنّ البعض منهم ما زال يتحدى الظروف القاسية ويخلق من العدم فرصة جديدة للحياة. المهندس سمير المغربي واحد من الذين يسلّمون بفكرة التقاعد المبكر بهدف «إتاحة الفرصة للشباب وضخ دمّ جديد»، مع استثنائه لذوي الخبرات العالية للاستمرار في عملهم. يتحدّث المغربي عن فترة انتقاله الى مرحلة التقاعد وكيفية تأقلمه معها سريعاً، واجتهاده في تحويلها إلى مساحة ممتعة «بالإمكانيات الجديدة المتاحة»، ومحاولته نقلها الى زملائه؛ ومنها هوايات مستجدّة كأنواع مختلفة من الرياضة وصيد الأسماك والالتحام بالطبيعة. يلفت الى صعوبة نقل هذه المهمة، بين زملاء له، «منهم مقتنع»، وآخرون «يكابرون ويخفون ألمهم»، وخاصة لجهة اعتقادهم بأن مراكزهم العالية على سبيل المثال ستبقيهم على أحوالهم بعد التقاعد. هنا، يطلب المغربي من المؤسسات الرسمية الاجتماعية إثارة هذا الموضوع «ليعلم كلّ موظف أنه رقم في الشركة مهما علا شأنه» على حدّ قوله. عبارات لا شك بأن كثيرين يرفضون سماعها، ولا سيما الذين تبوّؤوا مراكز عالية وشعروا بعد التقاعد بتغيّر جذري في التعاطي الاجتماعي معهم. يقف اليوم المغربي مع زملاء آخرين له، ينظرون برضى الى ما وصلوا إليه، على الرغم من أن أعمالهم السابقة أشعرتهم بالمتعة وولّدت لديهم ظروفاً اقتصادية مختلفة.