خلال السنوات الماضية لاحظ الأهالي في القرى والبلدات الحدودية الجنوبية اختفاء «المشتية»، أي رعاة الماعز الذين ينزحون عادة في فصل الشتاء من المناطق الجبلية الباردة إلى المناطق الأكثر دفئاً، من المنطقة. باستثناء عدد قليل جداً منهم يقصدون وادي السلوقي وإحدى مزارع عيترون (بنت جبيل)، إضافة إلى عدد من الأماكن في منطقة صور، لم يعد لهم الحضور الكبير الذي لطالما تميّزوا به. أسباب مختلفة تقف خلف هذا التراجع، ليس تقلّص المراعي وانتشار الأبنية السكنية أبرزها كما قد يظنّ البعض للوهلة الأولى. فمنذ بدء الأزمة الاقتصادية، استثمر عدد من أهالي القرى في تربية الماشية لتأمين الاكتفاء الذاتي، ما ساهم ولا يزال في إبعاد «المشتية» عن المنطقة بل وحتى طردهم منها. فقبل أيام، تداعى عدد من مربي الأبقار والأغنام في بنت جبيل ومرجعيون إلى اجتماع لمناقشة مدى الضرر اللاحق بهم بسبب وجود أحد كبار مربي الماعز القادم مع قطيعه الكبير من البقاع الغربي إلى وادي السلوقي هرباً من برد الشتاء. وتوصّل المجتمعون إلى «ضرورة توجيه كتاب إلى بلديات المنطقة لاتخاذ قرار يلزم الزائر بالابتعاد بقطيعه عن المنطقة».

أسعار «المشتية» أقلّ
حاول المجتمعون إبراز المخاطر التي تتعرّض لها البيئة في المنطقة، ولا سيما الأشجار التي يقضم الماعز جزءاً منها، إضافة إلى أن القطيع يستفيد من المراعي القليلة المتوفرة، وينافس في ذلك قطعانهم، لكن بدا في ما بعد أن «السبب الرئيسي يتعلق بالمنافسة في الأسعار، إذ يعمد الراعي الزائر إلى بيع الحليب بأسعار متدنية نسبياً عن الأسعار المتداولة، الأمر الذي أثار حفيظة بعض أصحاب رؤوس الماشية» بحسب مصدر بلدي في المنطقة، الذي أكد أن خلافاً نشب بين مؤجّر الأرض، المستفيد من وجود الزائر، وبين المنتفضين على وجوده.
يتحدث علي جواد، أحد رعاة الماعز في المنطقة، عن أن «المشتية» يبيعون الجدي الصغير بمليون ونصف مليون، بينما يباع هنا بأكثر من مليونين ونصف مليون، كما يبيعون سطل اللبن بمئة ألف ليرة، في الوقت الذي وصل فيه سعره في المنطقة إلى 200 ألف ليرة. لذلك تحرّك عدد من مربّي الماشية في المنطقة ضد وجود «المشتية»، علماً أن أعدادهم كانت قد بدأت تتناقص منذ بدأت البلديات والأحزاب تهتم بالتشجير وإنشاء المحميات الزراعية، في معظم المناطق الجرداء ليقتصر وجودهم القليل في أماكن قليلة في وادي السلوقي وبلدات ياطر، طيرحرفا وجبال البطم.

الأعلاف ترفع السعر البلدي
أما «المشتية» الذين كانوا يتنقّلون سيراً على الأقدام بين المناطق، فباتوا يستخدمون الشاحنات، بسبب ازدياد حالات السرقة. ويؤكد جواد أن «المتضرّر الأكبر من «المشتية» هم المربون الجدد للماشية، الذين يهتمون بتربية عدد قليل من رؤوس الأبقار والأغنام، ولا يقطعون المسافات لرعي مواشيهم، فيشترون الأعلاف، ويضطرون إلى بيع الحليب بأسعار مرتفعة بسبب ارتفاع سعر الأعلاف»، مؤكداً «تراجعَ أعداد مربي القطعان الكبيرة في المنطقة، ليحلّ محلهم الأفراد الذين يربون العدد القليل إلى جانب أعمالهم الأخرى». فعلى سبيل المثال، يقول جواد، في بلدة مجدل سلم تراجع عدد رعاة الماعز من 30 الى 10 رعاة، وفي باقي البلدات الحدودية لا يتجاوز عدد كبار رعاة الماعز اثنين أو ثلاثة، في الوقت الذي أصبح عدد الذين يملكون رؤوس ماشية قليلاً، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة».
يذكر الراعي محمد عليان أن «المشتية» الذين يقيمون في الأودية والحقول البعيدة عن المنازل، كانوا يقدمون الزبل (روث الماشية) مجاناً لأصحاب الأراضي التي يُؤوون قطعانهم فيها، إضافة إلى بعض الألبان والأجبان، ويوجد الكثير من الأهالي الفقراء الذين يرغبون بهذا البدل، نظراً إلى ارتفاع أثمان السماد الطبيعي والألبان والأجبان، لكن المنافسة والخشية من الأضرار على المزروعات تمنعان القبول باستقبال المشتية».

سرقة الماشية
في بلدة عيترون، يذكر نقيب مربي الأبقار في الجنوب فادي ضاوي أن «آخر المشتية ابتعد عن البلدة قبل نحو سنتين بعدما منعه الأهالي من استخدام أراضيهم، بسبب الأضرار التي ألحقها قطيعه بالأشجار والمزروعات»، ويؤكد أن «أعداد مربي الأبقار في المنطقة تراجعت أكثر من 45 %، كما ازدادت حالات سرقة الأغنام والماعز، وتراجعت مساحات المراعي كثيراً»، لكنه يتوقع أن «يزيد عدد مربّي الماعز والأغنام على حساب مربي الأبقار، لصعوبة نقل الأبقار الى أماكن بعيدة، بينما يمكن رعي الأغنام والماعز كلّ يوم في أماكن مختلفة».