يندر أن تطلق الدولة مشروعاً تنموياً، ويحظى برضى الأهالي. غياب الثقة هو الغالب بعد تراكم التجارب التي جعلت المواطنين يشكّكون في كلّ خطوة تقدم عليها المؤسسات الرسمية. وغالباً ما يستفيد المتضرّرون من مشروع ما من نقمة الأهالي، فيساهمون في نشر المعلومات المضلّلة أو المشكّكة للدفع باتجاه تشكيل حالة اعتراضية.لكن مناقشة أيّ مشروع وجودته، خصوصاً إذا كان متعلّقاً بتغذية المواطنين بالمياه، تفرض بناء صورة شمولية، قائمة على مقاربة علمية، تساهم في توضيح جدوى إقامته. لذا من المفيد تقسيم العوامل المرتبطة بمشروع تطوير نبع الطاسة إلى مؤشرات أساسية تساهم في بناء الصورة الواضحة حول المشروع.

تفاصيل المشروع
قبل الدخول في المؤشرات المذكورة، من المفيد استعراض بنية المشروع. في السابق، كانت مؤسسة مياه لبنان الجنوبي تجمع مياه نبع الطاسة في حصرة، وهي عبارة عن مكان تُجمع فيه المياه، وفي أسفله أنبوب تخرج منه المياه لتتابع تدفقها في مجرى نهر الزهراني. فوق هذا الأنبوب، بارتفاع معين، توجد أنابيب عدة تذهب من خلالها المياه الفائضة لخدمة أهالي المنطقة والمناطق المجاورة. في فترة الشتاء، تطوف المياه فوق الحصرة القديمة وتذهب هدراً في مجرى النهر. حتى إنه في بعض الأحيان، وبحسب مصادر في مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، كانت غزارة هذه المياه تدخل إلى مباني المحطة المجاورة وتتسبّب بأضرار فيها.

سيجرّ المشروع نحو 3 ملايين متر مكعّب سنوياً من فائض المياه

أما مشروع التطوير، فهو يقوم على بناء حصرة جديدة، مجاورة للحصرة القديمة، تُجمّع فيها المياه الفائضة في فصل الشتاء لتوزّع في شبكات المنطقة والمناطق المجاورة. ويفيد تقرير المؤسسة التقني بأن فائض المياه من نبع الطاسة سنوياً يُقدّر بنحو 40 مليون متر مكعّب. في حين تشير التقديرات إلى أن المشروع قيد التطوير سيجرّ نحو 3 ملايين متر مكعّب سنوياً من فائض المياه، أي ما نسبته 8.24% من الرقم المقدّر.

حاجة السكان إلى المياه
بين هدر المياه وحاجة السكان إليها، يمكن التقاط المؤشر الأول، من خمسة مؤشرات تقدّم صورة واضحة عن المشروع، وهو حاجة الكتلة السكانية التي سيغذيها المشروع إلى المياه، مع التذكير أنها لا تقاس بالوقت الراهن فقط، بل تلحظ تقدير الحاجات المستقبلية، لأن العمر الافتراضي لهذه المشاريع يمتدّ على عشرات السنين. ومن الأمور التي تعلي أهمية أي مشروع وجود نقص في التغذية بالمياه في الوقت الراهن.
يؤمّن نبع الطاسة المياه لنحو 48 قرية وبلدة في منطقة النبطية وإقليم التفاح. وهذه القرى تعاني من عجز كبير في المياه، لعدة أسباب، تبدأ بشحّ المصادر، ولا تنتهي عند غياب الطاقة الكهربائية المطلوبة لتشغيل محطات ضخ المياه. ويُقدّر هذا العجز في المياه حالياً بنحو 1.7 مليون متر مكعب سنوياً، وهو مرشح للازدياد بشكل كبير في السنوات المقبلة. لذا يُشكّل هذا المشروع حلّاً جزئياً لمشكلة هذه البلدات والقرى المحرومة من المياه.

مصادر المياه والأثر البيئي

المؤشر الثاني هو مصادر المياه، هل هي جوفية أم سطحية؟
فهي إن كانت جوفية، يجب السؤال عن الخزان الجوفي الذي تتغذّى منه البئر المستغَلّة؟ وإن كانت سطحية، فالسؤال المطروح هو عن فارق الارتفاع بين المصدر وخزانات التغذية؟
يعتمد مشروع تطوير نبع الطاسة على المياه السطحية. لكن ما هي بدائله إذا جرى تعطيله؟ في هذه الحالة، من المرجّح أن تُعتمد البدائل على حفر الآبار في أماكن مختلفة لتأمين التغذية للقرى والبلدات.
يفتح هذا الأمر مجالاً للحديث عن مؤشّر ثالث وهو الأثر البيئي، والذي يختلف بين استنفاد المياه الجوفية وبين استحداث مشاريع على مجاري المياه السطحية. بشكل عام، هناك توجه دائم إلى تفضيل مصادر المياه السطحية على الجوفية، حيث إن هنالك عجزاً دائماً (في لبنان) في ميزان المياه الجوفية. بمعنى أن سحب المياه الجوفية يفوق كثيراً ما يدخل إلى الخزّانات الجوفية من الأمطار سنوياً. لذلك، إذا كانت البدائل هي حفر الآبار للحصول على مياه جوفية، فالأثر البيئي سيكون استنفاد مياه الخزّانات الجوفية، وهو ما يُعرّض لبنان إلى المساس باستدامة ثروته المائية. وهو ما قد يؤدّي، بطبيعة الحال، إلى خسارة المياه السطحية المرتبطة بمستوى المياه الجوفية. من ناحية أخرى، يحتاج استخدام المياه الجوفية إلى طاقة، ما يسهم في زيادة الانبعاثات السامة في الهواء، بالأخص إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التغذية الكهربائية ستكون عبر المولّدات بسبب انقطاع الكهرباء المستمر.
أما الأثر البيئي على المياه السطحية، فهو يتعلّق بشقين: الأول هو قوة دفق المصدر بعد سحب المياه، إذا كان المصدر من مياه جارية، وتأثير ذلك على البيئة المحيطة، وعلى المزارعين المستفيدين على ضفتي المجرى. (وفي حالة نبع الطاسة، تظهر الدراسة أن التأثير هامشي، إذ إن المشروع يأخذ نحو 8.24% فقط من مياه النهر). والثاني هو الأثر البيئي المباشر على الجغرافيا في حالة إنشاء بحيرات اصطناعية أو سدود، وهذا لا ينطبق على المشروع قيد البحث.

كلفة الإنتاج
المؤشر الرابع مرتبط بشكل أساسي بطريقة نقل المياه من المصدر إلى الخزانات، وهو أمر مهم لاحتساب كلفة الإنتاج. هذه الكلفة في نبع الطاسة منخفضة، لأن جرّ مياهه يتم بالجاذبية ولا يحتاج إلى طاقة. في العادة، تتعلّق الكلفة التشغيلية الأساسية باستعمال مضخّة لضخ المياه. وفي حال كان مصدر المياه جوفياً، فلا بد من استعمال الضخ باستخدام الطاقة الكهربائية. كلفة تشغيل هذه المضخات مرتبطة بشكل مباشر بعمق الخزان الجوفي، وارتفاع خزّانات التجميع في القرى عن مستوى سطح البئر. فالعامل الأساسي هو المسافة العمودية لسحب المياه. أما إن كان مصدر المياه سطحياً، فترتبط كلفة الإنتاج والنقل بفارق الارتفاع بين الخزانات في القرى والمصدر.
في حالة نبع الطاسة، المصدر أعلى من الخزانات في أغلبية القرى المستفيدة لذا لا حاجة إلى استعمال الطاقة الكهربائية للضخ إلى قرى إقليم التفاح وأطراف النبطية. مصادر المياه الجوفية دائماً بحاجة إلى طاقة كهربائية لاستخراج المياه وضخّها إلى الخزانات التجميع، ويترتب على ذلك كلفة تتضاعف في حال تقصير كهرباء لبنان حيث الاعتماد الكامل يكون على مادة المازوت لتوليد الطاقة عبر المولّدات.

ماذا عن المواطن؟
هناك مؤشر إضافي، هو الكلفة التي على المواطن تحمّلها. فالنقص في التغذية بالمياه يجري تعويضه عن طريق القطاع الخاص، وهو اللجوء إلى الصهاريج بشكل أساسي. هذه الصهاريج تتسم بمشكلتين: الأولى هي عدم ضمانة جودة المياه، والثانية هي الكلفة الإضافية التي سيتكبّدها المواطن. ومع ارتفاع أسعار مياه الصهاريج، أصبح الحصول على المياه عن طريقها يستهلك جزءاً كبيراً من مداخيل الأسر، لذا فإن مشروع تطوير نبع الطاسة قد يساهم في تخفيف الكلفة على جيوب هذه الأسر. وفي المحصّلة من الضروري أخذ كل هذه العوامل/ المؤشرات في الاعتبار قبل الشروع في الحكم على المشروع.