تغيّر حال التسعيني أبو حسين منذ وفاة زوجته قبل سنة. كان قبل ذلك يخاف الموت، ولكن بعد موت رفيقة عمره ساءت الأمور إلى درجة بات يخشى فيها من الخلود إلى النوم خوفاً من أن يتصل بنوم أبدي. تتحدّث ابنته كيف صار يخاف كما يخاف الصغار من ترك أمهاتهم لهم. «يتعبّط بي ويطلب مني أن ألازمه وأبقى بقربه أو في محيطه. يزداد الأمر سوءاً كلما اقترب وقت الغروب، هنا يرفع صوت التلفاز ليبقى صاحياً قدر الإمكان. وعندما يغفو أخيراً يستيقظ مذعوراً ويطلب مني أن أحتضنه. صار نومه متقطعاً ومضطرباً حتى ساءت حاله جداً. عندما اضطررنا لأخذه إلى المستشفى أصابه الرعب ورفض بقوة. لأنه كان يعتقد أن سرير المستشفى هو النهاية ولن يخرج منه إلا إلى التراب». مضى اليوم على وفاة أبو حسين نحو سنتين. تروي ابنته كيف قضى عامه الأخير على الأرض بخوف وبؤس. «كان لا ينعشه إلا نسيم الصباح فيحاول الخروج إلى حقله. كان متمسكاً بالحياة ولا يريد أن ينهال التراب فوقه. كان ينظر إلى أرضه وكروم العنب ويتمنى لو أنه لا يوجد موت.
(هيثم الموسوي)


ظهور الأمراض
يرى مؤسس «الجمعية اللبنانية لطب الشيخوخة» ورئيس قسم كبار السن في «مستشفى دار العجزة»، الدكتور نبيل نجا أن الخوف من الموت عند المسنّ هو مسألة حساسة جداً، يفترض مقاربتها بتأنّ، لأنها تحوي أبعاداً إنسانية اجتماعية فلسفية دينية وأخلاقية. ويوضح أن كبير السن يصاب بمجموعة من المتغيّرات التي تؤثر على حياته وعلى تعامله مع الموت، «وأبرز متغيّر هو المتغيّر الصحي، حيث تبدأ الأمراض المزمنة بالظهور (الضغط، السكري، القلب، ترقق العظام، الاكتئاب…) وبالتالي تضعف قدراته الجسدية والحسية، فيتناول الأدوية لعلاجها، لكنه أيضاً يعاني من أعراضها الجانبية. إذا وجدنا كبيراً بلا أمراض فهذا استثناء، لأن الأغلبية مع الأسف يقصدون الطبيب عندما يستفحل المرض وهو ما يؤثر على العامل النفسي، فيشعر بأنه اقترب أكثر من الموت».

متقاعد = متّ قاعد!
أما المتغيّر الاجتماعي فيتمثل بالدرجة الأولى بفقدان العمل، حيث يتقاعد الإنسان في عمر معين من كثير من الأعمال. «كثير من المتقاعدين يترجمونها: متّ قاعد. هؤلاء لم يتهيّأُوا لمرحلة التقاعد. ولذلك يشعرون باللاجدوى والفراغ. والفراغ قاتل».
أما المرحلة الأخرى التي تعد مفصلية، وتؤثر في تعامل الإنسان مع الموت، فهي عندما يفقد الكبير شريك حياته أو عزيزاً على قلبه. «فيشعر بأن حياته باتت بلا معنى وبلا طعم. وهي ردة فعل مقبولة في المراحل الأولية، ويجب أن تحاط بدعم العائلة واحترام فترة الحداد. لكن إذا بقي الأمر كذلك بمرور بضعة أشهر يجب التدخل». كذلك يأتي موت الأتراب ليضاعف من المأساة. «كثير من كبار السن يفتحون الجريدة على صفحة الوفيات. يقرأون عن وفاة أحد ما عرفوه في ما مضى، يعلمون بموت رفاقهم. هنا يحدثون أنفسهم بأن لحظتهم اقتربت».

ما يمكن فعله
«يجب أن لا ننظر بسوداوية إلى التقدّم في العمر. نعم لا يمكن تغيير مسار الحياة، لكن مفروض أن نتعامل معه» يقول نجا، مشيراً إلى أن «10% من كبار السن يعجزون عن التكيّف مع الوضع بسلام وهدوء، ولذلك يضطرّون إلى تناول مضادات الاكتئاب والأدوية المهدّئة للأعصاب».
على المستوى الصحي، «نحن في طب الشيخوخة نعمل في الطب الوقائي. ولذلك نطلب من الذين يتقدمون في السن أن يجروا فحوصات دورية، وبالتالي يعيشون حياة أكثر راحة مع الاهتمام بالعامل الجسدي».
10% من كبار السن يعجزون عن التكيّف مع تقدّمهم بالعمر بسلام وهدوء


أما على المستوى العملي، فيرى أهمية في أن يهيّئ المرء نفسه لهذه المرحلة «بمشروع أو عمل أو تطوّع والمساهمة في دور إيجابي في المجتمع أو حتى راحة، لكن المهم أن يخطط لحياته بعيداً عن العيش بالفراغ. والتحضير يكون بإنعاش هوايات قديمة: كصيد السمك، الزراعة، تعلم لغات، التمرس على التكنولوجيا…». ويشدّد على دور العائلة والمحيط الاجتماعي في أن يحدّد للكبير هدفاً. «عندما يكون الإنسان بلا هدف يفكر بالموت! وهنا دور الأسرة أن تعطي كبير السن دوراً عائلياً واجتماعياً، مثلاً دور إشرافي، استشاري، رعائي، تحميله بعض المسؤوليات… وحتى لو لم يكن هذا الدور أساسياً فيفترض أن نقنعهم بأنه ضروري».
لكن يبقى للعنصر الإيماني دوره الأساسي في تكيّف الإنسان مع الموت، كما يفيد نجا «حيث يقتنع المؤمن بأنه يمر في الدنيا مرور الكرام، وأن الحياة محطة قصيرة. وبهذا الإيمان تصبح الأمور أسهل. ولذلك نرى أن بعض المؤمنين يتمنّون اقتراب النهاية قائلين إنهم أدّوا دورهم في الحياة، ويتوقون إلى لقاء الله. ولذلك الأمور ستكون أشد صعوبة عند من لا يؤمن».