أكثر من خمسين عاماً مضى على إنشاء بناية طياح في شارع «باستور» في منطقة الجميزة. أقدمية البناية وطابعها التراثي لم «يشفعا» لها عند الشركة العقارية التي اختارت أن تبني أحد أضخم مشروع عقاري في بيروت بالقرب منها. ذلك أن أحد مباني «قرية الجميزة» المؤلف من تسع طبقات بوشر بتشييده ملاصقاً لمبنى الطياح، وهو ما يؤدي إلى الحجب الكلّي للضوء وللهواء عن 13 شقة سكنية تقع في الجهة المقابلة لجانب المبنى (جدار يخلو من أية نوافذ حسب مجسمات المشروع).
أربعة أمتار تفصل بين المبنيين، وهذه «الذريعة» تتمسك بها شركة CGI (مجموعة عودة – ساردار) لتحاجج بأن مبناها لا يلحق الضرر وأنه «يلتزم القوانين».

بدنا نتنفس!

«ما حدا عم يتشاطر عليهن لياخد مساحة، بدنا نتنفّس»، يقول أنطوني طياح (رئيس لجنة بناية طياح وأحد سكان الشقق المتضررة من تشييد المشروع)، متسائلاً: «من يملك 7000 متر كيف به أن يشارعنا على متنفس هواء؟». ويلفت طياح إلى أن المبنيين لا يتساويان في عدد الطبقات، «أي قانون تنظيم مدني يسمح بإقامة مبنى بتسع طبقات بالقرب من مبنى لا يتعدى أربع طبقات، يكون فيها شرفات ونوافذ؟»، يسأل طياح الذي لجأ إلى تقديم شكوى عند قاضية الأمور المستعجلة في بيروت، زلفا الحسن، منذ أكثر من شهرين. يلفت طياح إلى «الفوقية» التي تتعامل بها الشركة، فبعد العديد من محاولات مراسلة طياح لهم لم يُرَدّ عليهم إلا بعد لجوء الأخير إلى القضاء. بعض أهالي البناية مقتنعون بأن الشركة صممت المبنى بلا نوافذ عمداً، «بدن يهجرونا من هون» تقول إحدى قاطنات المبنى. المؤسف أن من يريد فعلاً أن «يتهجّر» ويترك شقته، لن تكفيه سعر الشقة (الذي سينخفض حكماً نتيجة إغلاق منافذها) لإيجاد بديل في المدينة بأكملها وليس في المنطقة التي عاشوا فيها عشرات السنين، وذلك نتيجة ارتفاع سعر العقارات في المدينة. قد تكون شقق أولئك الناس هي «إنجازهم» الأوحد و«سندهم» الذي يعولون عليه. ثمة من يضعهم اليوم بين خيار يهدد عيشهم فيها بـ«سلامة»، وإما خيار «طردهم» من منطقتهم وسلخهم عن نسيجهم الاجتماعي.
ما يتعرّض له سكان مبنى الطياح، ليس حالة فردية منفصلة عمّا يحصل في المدينة التي تشهد «هجوما»ً عقارياً يمزّق تاريخ المدينة ويردم تراثها وآثارها. في خمسينيات القرن الماضي، كانت الجميزة عبارة عن «ضيعة»، بعض الأبنية التراثية «اليتيمة»، ولافتات شوارع «ذات الطابع الأثري» تثبت ذلك. لا تزال جمال (إحدى القاطنات في شارع باستور) تتحسر على تلك الشجرة المعمرة التي كانت تزيّن الحي. «أذكر أني بكيت حين جرفوها، كذلك ابني جاد الذي طلب مني أن أوقفهم». آلمها مشهد فرار العصافير عند كل «ضربة كانوا يضربونها». «استغرقت معهم ثلاثة أيام لاقتلاعها» تقول جمال في إشارة إلى حجمها الضخم.
الجدير ذكره أن مشروع «قرية الجميزة» شُيِّد بعد جرف الكثير من الآثار التي وجدت هناك. «وجدنا آثاراً كاملة تحت الأنقاض»، يقول طياح قبل جرفها في الـ 2009. وبالتالي إن المشروع الذي «يجرف» آثار المدينة لن يتوانى عن جرف أثر سكانها لمصلحة المستثمرين والأغنياء.

قانون البناء يدفع
بقوة باتجاه الملكياتِ العقارية الكُبرى



يذكر أن المشروع يضمّ برجاً مؤلفاً من 36 طبقة، فضلاً عن خمسة مبانٍ إضافية، من ضمنها المبنى المذكور (9 طبقات)، ويقع المشروع بين شوارع رئيسية في منطقة الجميزة: «غورو»، «سانت فامي»، «باستور».

تواطؤ قانون البناء

يقول المعمار رهيف فياض، إن المادة السادسة عشرة من قانون البناء الجديد، تدفع بقوة باتجاه الملكياتِ العقارية الكُبرى، وباتجاه المباني المتفلِّتة بارتفاعِها من كلِّ القيود. فهي تسمحُ بالاستثناءِ في معدّلِ الاستثمارِ السطحيِّ، وفي عددِ الطبقات، وفي ارتفاعِ المبنى. كلُّ هذه الاستثناءاتِ مسموح بها بشرطٍ واحدٍ هو شرطُ المساحةِ اللازمة لذلك، وهي 4000 م2 في بيروت، وفي مراكز المحافظات، و20000 م2 خارجها. ولا تشيرُ المادةُ إلى وظيفةِ هذه المجموعاتِ التي قد تتطلَّبُ تعقيداتٍ في التأليفِ، أو تجهيزاتٍ خاصة، كذلك لا تُشيرُ إلى موقِعِها في النسيج المدنيِّ أو خارجه، في الريفِ أو في المواقعِ الطبيعية، لافتاً إلى أن «زيادة عامل الاستثمار العام ومعدَّل الاستثمار السطحي، وإن بطرق ملتوية، تؤدي آلياً إلى ارتفاعٍ في أسعارِ الأراضي. وربّما كان هذا الارتفاعُ أحدَ الأهدافِ الرئيسية لواضعي هذا القانون».
ويضيف فيّاض: «لقد أوصلنا هذا القانونُ إلى زيادةِ الكثافة السكانية بنسبة 40% أو أكثر، فضلاً عن زيادةِ عدد السيّاراتِ بالنسبةِ ذاتِها حركةً ومواقف، وزيادة في ارتفاعِ المباني بالنسبةِ ذاتِها أيضاً، وزيادةٍ في النفاياتِ المنزلية. كلُّ ذلك في غيابٍ كليٍّ، للتجهيزاتِ الضروريَّةِ وللمجالاتِ العامة، وللمجالات الخضراءِ. وينجُمُ عن كلِّ ذلك تدميرٌ لكلِّ تنظيمٍ مدنيٍّ، وتشويهٌ كلِّي للنسيجِ المبنيِّ في كلِّ الأمكنةِ، وتلوُّث إضافيٌّ، وإساءَةٌ جسيمةٌ إلى التشميس والتهوية وإلى الشروطِ البيئية العامة. إنه تغيير كلِّي لصورةِ المدينة، وتحويلُها إلى مكانٍ مشظَّى غير متجانسٍ في بنيانهِ وفي نسيجِهِ الاجتماعي».

الدولة «العنيفة»

يقول الباحث في علم الاجتماع رائد شرف، إن «غياب اللغة الهندسية وحصر الهندسة والسياسة المدنية بالشكل الوظيفي الصرف، يزيد من حصر دور الدولة على تفسيرها «الفيبري»، على أنها صاحبة الحق الحصري بممارسة العنف، عوضاً عن أن تكون المؤتمن، الوحيد الممكن، على المصلحة العامة وبتجسيد وتطبيق «الشخصية الجامعة»، فتصبح الشخصية الجامعة التي تسوّق لها مشتركها العنف والوظيفة وكل واحد لذاته، وتترك العلاقات بين الطبقات والمجموعات الاجتماعية المختلفة محكومة بأهواء الطبقات العليا الفجة وشهواتها الأنانية ومفتوحة على تطوّر كل أشكال عواطف العدائية والمواجهة الاجتماعية الممكنة».