في الجهة المقابلة لملعب الصفا، يقع العقار 2215، أو حيّ «آل حيدر» كما يسمى منذ عشرات السنين. اجتياز الزاروب المؤدي إلى داخله يعني أنك أصبحت خارج معادلة المدينة التقليدية، لا شيء هنا يوحي بالمحيط المديني الذي يقبع هذا الحي في وسطه.طريق واحدة ضيقة تقودك إلى بيوت الجميع. بيوت جالسة فوق بعضها البعض بعشوائية.

كل بابٍ حديدي مهترئ على جانب الطريق يؤدي إلى 3 أو 4 بيوت صغيرة بدرجٍ لا يمكن أن يتسع لأكثر من شخص واحد. لا تزال النساء تنشر الغسيل على الأسطح الصفراء، يتبادلن الأحاديث من سطح لآخر. شرفات محدودة و«دار» صغيرة تتوسّط كل مجموعة بيوت. «تنك» الزرع والورود يملأ المداخل، والأرض الباطون تشير إلى أن هذه البيوت لا تزال على حالها منذ تشييدها. جميع السكان يعرفون بعضهم بعضاً، كلّهم «قرايب»، إذ إن الحي أخذ اسمه منهم، مع وجود القليل من المستأجرين القدامى الذين أصبحوا جزءاً أساسياً من هذا النسيج الاجتماعي العائلي.
في عام 2007، دخل «الغريب» إلى الحي. اشترى العقار بأكمله وسجّله نهائياً في الصحيفة العقارية بعد 4 سنوات. فجأةً، وجد آل حيدر أنفسهم «محتلين» بعدما كانوا ملّاك هذه الأرض مدة 83 عاماً. محمد سميح غدار «المقرب من الأستاذ برّي»، وفق كلام الأهالي، «سينتزع السكان من أرضهم» ليُقيم برجاً سكنياً بعدما اشترى الأرض التي تبلغ مساحتها 3970 متراً مربعاً من ورثة نجيب عرمان وجان بلدي، بسعر «أقل من سعرها الفعلي» كما تقول محامية غدار، فيما يؤكّد السكان أنه اشتراها بمليون و800 ألف دولار فقط. ويؤكدون أيضاً أنهم أصحاب الأرض الفعليون، وخطأهم أنهم لم يسجّلوا ملكيتهم لها بعدما سددوا ثمنها في الثلاثينيات من القرن الماضي.

القانون لا يحمي الذكريات

رفع غدار عبر محاميته 30 دعوى على جميع قاطني الحي. 13 دعوى صدر فيها حكم بالإخلاء وأصبحت أغلبيتها في مرحلة الاستئناف. «صفر تعويض» تقول المحامية منى فرحات عن التعويض الذي يمكن أن يحصل عليه السكان في حال حكم القضاء لصالح غدار. إلا أن المفاوضات مع السكان قائمة، إذ تمكّن غدار من الاتفاق مع شخصين، الأول مستأجر والثاني مالك، تركا الحي قبل صدور الحكم النهائي مقابل مبلغٍ من المال. يستغرب مروان حيدر خطوة غدار «رفع ضدنا دعاوى احتلال، لكنه في الوقت نفسه يفاوضنا! لو قادر يشيلنا ببلاش ليش عم يتفاوض معنا؟».
يملك سكان الحي عقوداً وأحكاماً منذ عام 1931 تثبت ملكيتهم للأرض. لكن كيف دخل رجل الأعمال إلى الحي؟ استغلّ غدار خطأ قانونياً ارتكبه سكان المنطقة من خلال عدم تسجيلهم العقار عند شرائه وسقوط المهلة الزمنية.
منذ سنتين، كان ناصر حيدر لا يزال حيّاً عندما روى قصّة العقار 2215. أخرج أوراقه القديمة وعقوده كإثبات على كلامه «عام 1931 اشترى 3 جدود من آل حيدر هم: حسين داود حيدر، يوسف أمين حيدر وأمين شاهين حيدر 1700 ذراع من آل عرمان وشركائهم. واشترى فدعة عبدالله حيدر وتوفيق حيدر 600 ذراع. طلبوا من نجيب عرمان أكثر من مرة أن يسجل الأرض، لكنه تهرّب. لذلك وكّل فدعة حيدر محامياً وفزنا بالدعوى ضد نجيب عرمان في محكمة صلح بيروت عام 1959 ونصّ الحكم على إلزام نجيب عرمان بتسجيل الأرض، لكن ذلك لم يحصل». بعد ذلك، دخل البلد في مشاكل وحروب عديدة منعت آل حيدر من متابعة الموضوع.
اليوم، يروي سكان الحي قصة ناصر نفسه الذي تفشّى مرض الفقاع الجلدي في جسده في آذار الماضي نتيجة الضغط النفسي بعد صدور حكم الاستئناف الذي انتزع العجوز من أرضه. توفي ناصر في أيار بعدما حارب حتى آخر نفس ليحافظ على أرضه التي ولد وعاش فيها، المال لم يكن يعنيه. أراد أرضه فقط ودفع حياته ثمناً لها.
المشروع الذي سينشأ على أنقاض تاريخ آل حيدر وذكرياتهم هو «بناية سكنية لأهل المنطقة أنفسهم، فكل شخص سيسكن في المكان الذي ولد وتربّى فيه» كما يقول محمد سميح غدار. لم يكن يتصوّر أن «يكون هناك هذا العدد من «المحتلين» في الأرض عندما اشتراها». رد أهالي المنطقة جاء واضحاً على لسان رمزي حيدر «مين من أهل المنطقة طلب من غدار يعمل لنا مشروع سكني؟! هو يريد أن يهجّرنا من بيوتنا».

خبريات حلوة

أم رمزي، المرأة السبعينية، لا تزال مصدومة ممّا يحصل. كانت سيّدة هذه الأرض لمدة 58 عاماً منذ أن تزوّجت وانتقلت إلى الحيّ بعمر الـ 16 سنة «كيف يعني هلق صرنا محتلين؟!». تجلس في الدار الصغيرة وتتكلم بحسرة «يلّي ربيان وعايش هون ودم قلبو بهالبيوت ما فيه يطلع». مشكلة أم رمزي ليست في عدم توفر منزل آخر يؤويها «بتعطيني بيت جديد، بس ذكرياتي كيف بتعوضلي اياها؟». علاقات اجتماعية متينة تجمع سكان هذا الحي «كل عيد منبرم زيارات على بعض، إذا حدا عندو عرس كل النسوان بتتجمع لتحضّر أكل، البواب مفتوحة مين ما بدو بميّل يشرب فنجان قهوة، ولاد الحي عندن مساحة يلعبوا فيها...». تعتذر أم رمزي عن عدم إكمال الحديث لأن عليها أن تسقي «الجنينة» التي زرعتها «رمان وليمون وأبو صفير وفل من إيام المرحوم».
عام 1967 ولد هيثم في هذا البيت «جدي وبيّي وأنا وولادي كلنا خلقانين بهالبيت». تعلّم في مدرسة وطى المصيطبة الرسمية المختلطة الملاصقة للبيت «الحي كلّو تعلّم هون. كنا ننزل عالفرصة ناكل ببيوتنا ونرجع». عندما تزوّج هيثم بنى فوق بيت أهله «هالبيت أنا عمرتو بتعبي ليرة فوق ليرة... عأساس إنو الأرض إلنا». يتحسّر هيثم على ملعب الرمل المقابل الذي كان يلعب فيه أولاد الحي «تحوّل الملعب إلى بناية». تمكّن رمزي من لمس الوجع بدقة «في خبريات حلوة بهالحي، إذا بقينا هون منضل نتداول فيها ونخبرها لولادنا، بس إذا فلّينا مننساها لإن وجودها الحسّي بيتدمر».
تحوّلت الجلسة فجأة إلى نبشٍ لذكريات ماضية بين هيثم ورمزي «بتتذكر لما كان جدي نهار الأحد يحط طاولة عالشارع ونشوي لحمة، 250 تنكة فل كان زارع، كنا ننام 8 بهالغرفة...». يخرق جدار الذكريات سؤال مزعج عن شاري العقار، لتختفي الضحكات ويعود الغضب: «حوت المال بياكل العالم، قاعدين عم يدعوسوا عالناس كرمال يزيدوا أرباحن بالمصارف». يعلنها رمزي معركةً مفتوحة «بدنا نشيل الناس من أفواه الحيتان».
آل حيدر ليسوا وحدهم المتمسكين بأرضهم. أم نضال عساف، المستأجرة السبعينية، تربطها بهذه الأرض علاقة قوية «إلي 44 سنة هون، المكان الذي تعيش فيه يصبح وطنك والجيران يصبحون أهلك، كيف بدن يحطونا كل واحد بمطرح؟». ابنتها إيمان التي غادرت الحي بعد زواجها منذ 11 عاماً لا تزال تعود إليه بشكل دوري «لما بوصل عأول الحي بنبسط. هيدي أرضي وطفولتي وحياتي كلها هون. أولادي بحبّوا أن يجوا لهون كثير، هيدا بيت جدهم وصاروا صحبة مع كل ولاد الحي».




زيادة قدرة الرأسماليين على الأرباح

تنتهج الدولة سياسة تقوم على مبدأ الريع، ما يجعل المصارف وأصحاب رؤوس الأموال متحكمين أساسيين في الاقتصاد. جزء من هذا المبدأ يرتكز على تشجيع الريع العقاري بشكل خاص. إذاً، جميع مشاريع استبدال الأحياء الشعبية بناطحات سحاب ومجمعات ضخمة تدخل ضمن عملية مضاربة صافية، نظراً إلى ارتباط الاقتصاد بالريع العقاري. لا أحد من سكان بيروت يستطيع أن يسكن فيها نتيجة ارتفاع ثمن العقارات، والذي يشتري هذه العقارات لا يهدف إلى السكن بل إلى استثمارها في ما بعد. تأتي هذه السياسة نتيجة تراكمات عديدة بدأت مع مرسوم تنظيم الشواطئ، قانون البناء، وصولاً إلى قانون الإيجارات. كل هذا بهدف زيادة قدرة الرأسماليين على تحقيق الأرباح. يؤكّد المعمار رهيف فياض أنّ قانون البناء وُجد ليجعل من ملاكي بيروت جميعهم أغنياء من خلال التشديد على محفزات الملكية الكبرى وتدمير الملكيات الصغيرة. يشرح فياض أنّ «قانون البناء وُضع لحالات مثل وطى المصيطبة والخندق الغميق والأوزاعي والدالية وغيرها، من أجل تهجير السكان واستقدام رؤوس أموال للبناء. أما قانون الإيجارات فهو مكمّل لهذا القانون، وبالتالي كل من يبني أو يشتري عليه أن يكون غنياً».