لم يُلق الفيلم الضوء على هشاشة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفتيات وكيفية استغلال القوادين لهن فحسب، بل أظهر عقلية «شاري» الجنس عبر شهادة موثقة لأحد مشتري الخدمات جنسية. وهو هدف أرادت الجمعية التركيز عليه، مفاده بأن «الدعارة تدور حول جنسانية الرجل». من هنا كانت الدراسة التي أعدتها مسؤولة قسم مكافحة استغلال النساء والإتجار بهن في «كفى» غادة جبور، حول «استكشاف الطلب على الدعارة»: ما يقوله مشترو الجنس الذكور حول دوافعهم وممارساتهم وتصوراتهم.
الدراسة تظهر أن معظم الرجال (مشتري الخدمات الجنسية) يدركون هشاشة وضع الفتاة، «ما حدا بيحب العبودية والاستغلال» يقول أحد المشترين، ويضيف آخر « ما في مرا ممكن تكون مبسوطة هيي وعم تعمل هل الشي»، الا انهم يستمدون من ضعفهن ذريعة تشرعن سيطرتهم في العلاقة على حسابهن. تقول جبور إن الرجل المشتري لا ينظر الى العلاقة على أنها علاقة متساوية، بل يكون هو الطرف المسيطر، فلا يأخذ بعين الاعتبار ما قد تشعر به تلك الفتاة. كلام جبور تؤكده الدراسة التي أشارت الى أن 80% من الرجال أفادوا بأنهم يتوقعون أن تلبي الفتاة جميع متطلباتهم. الأمر الذي تجد فيه جبور «تعزيزا لحس الامتلاك وعدم الاكتراث لمشاعر المرأة، وإضافة الى إفادات بعض الفتيات بتعرّضهن للضرب من قبل بعض الزبائن الغاضبين، فضلا عن ضربهن من قبل القوادين، هناك ممارسات عنيفة يلجأ بعض الرجال اليها مثل تفريغ شهوانيتهم بفتاة الدعارة، التي يعدونها باتت «ملكًا» لهم «.
«أقوم بأفعال جنسية لا أقوم بها مع زوجتي لأنها أم أولادي وأحترمها، ولا أعتقد أنها تقبل ذلك»، هذا ما قاله أحد المشترين عند سؤاله عن لجوئه الى الدعارة، اللافت أن 60% من مشتري الخدمات (من الذين شاركوا في المقابلات) أفادوا بأن لديهم شريكة كانوا في علاقة جنسية منتظمة معها في الفترة التي أجريت فيها المقابلة معهم. أمّا دوافع هؤلاء، فقد اختلفت بين من وجد أن شراء الجنس أسهل وفي المتناول أكثر، ومن أقر برغبته في «تغيير الطعمة» وغيرها من المبررات التي تصب في دافع تلبية غريزتهم الجنسية «اللي متل الاكل والشرب». هذه الدوافع أظهرت اعتقاد هؤلاء بأن لجوءهم الى الدعارة حق مكتسب وطبيعي. ويشير هؤلاء الى أن اختيارهم أماكن الدعارة يعود الى «توافر النساء والخيارات المتنوعة التي يمكن الحصول عليها».
تشير جبور الى ما أن معظم مشتري الخدمات الجنسية يرون أن ظاهرة الدعارة جزء أساسي من المجتمع، لا بل «حذروا» من خطورة انعدام هذه الظاهرة. «قد تكثر حالات التحرّش والاغتصاب» وفق ما قال أحد المشترين. هكذا إذا، تصبح شريحة نساء الدعارة «ضرورية» لمجتمع سليم خال من التحرّش والاغتصاب، فهن «المتنفّس» الذي يفرّغ هؤلاء «شحنهم الجنسي».
وعلى الرغم من «إقرار» هذا الشاري بضرورة وجود نساء الدعارة لم ينفك يصفهن «بحثالة المجتمع»، كيف لهذا «الفحل» أن يعترف بضرورة وجود تلك «الحثالة» في المجتمع وبعدم قدرته عن الاستغناء عنها؟
شهادات مشتري الخدمات الجنسية، اتخذتها «كفى» أساسا في خلاصتها التي ركّزت عليها:
«لو لم يكن هناك طلب من قبل الرجال على الممارسات الجنسية المدفوعة لما وجد كل من الدعارة والاتجار بالأشخاص بهدف الاستغلال الجنسي، ولما استمروا في الانتشار وتحقيق الأرباح».
من هنا، كانت التوصيات المطالبة بالعمل على «ذهنية الشاري»، والمطالبة بعدم تجريم المرأة باعتبارها ضحية عنف، بل يجب تجريم المؤسسات التي تصنع الدعارة.
في هذا الإطار، تبرز الكثير من المغالطات التي ترافق الملاحقات الجزائية للدعارة، وهو ما توثقه دراسة «الدعارة جريمة أخلاقية أم جريمة استغلال»، التي تتضمن قراءة قانونية لقضايا 228 امرأة مدعّى عليهن بجرم الدعارة السرية. اعدها المحاميان نزار صاغية وغيدا فرنجية.
انتقائية في ملاحقة مستغلي الدعارة والزبون مغيّب:
المفارقة الكبرى تكمن بداية بان الزبون لا يتعرّض صراحة لأي مسؤولية جزائية، وفق قانون العقوبات. المتهم الأول بجرم ممارسة الدعارة هي تلك الفتاة التي تعمل على «اصطياد الزبائن عن الطريق العامة» فتوقع ذاك «الضحية» بشباكها. يقسم مكتب حماية الآداب ملفات النساء الموقوفات بتهمة ممارسة الدعارة الى ثلاث فئات:
«اصطياد زبائن»، «ممارسة الدعارة»، و»الاشتباه بممارسة الدعارة». يؤكد هذا التقسيم أهمية تخصيص فئة خاصة للنساء اللواتي يصطدن الزبائن على الطريق العام مقارنة بسائر النساء اللواتي يصطدن الزبائن من خلال أساليب أخرى، كأن يكنّ في بيوت مغلقة او مؤسسات منظمة (ملاهٍ وبارات ومراكز تدليك) او التواصل الهاتفي مع الزبون، ويعود تخصيص فئة لـ»اصطياد الزبائن» الى تجريم «المتحرّشات» في الأماكن العامة في قانون 1931.
الجدير ذكره أن جميع قضايا الدعارة تدخل في اختصاص مكتب حماية الآداب، وهو مكتب مركزي في بيروت ليس له أي فرع في المناطق،» الأمر الذي يجعل هذا المكتب المرجع الوحيد المختّص في الاستقصاء عن جرائم الدعارة واستغلالها والتحقيق فيها بما يستتبعه ذلك من نتائج من شأنها تعزيز الانتقائية في الملاحقة» وفق ما يلفت معدو هذه الدراسة. من هنا تلفت الدراسة الى استنسابية معينة من قبل المكتب في التعامل مع الأسماء الواردة في التحقيقات، وخاصة لناحية عدم التوسّع في التحقيقات مع بعض المسهلّين، ومن الأمثلة على ذلك: في إحدى القضايا، ورد اسم مالك شاليه مارست فيه ثلاث نساء الدعارة وفق ما ورد في إفاداتهن، لكن المكتب لم يبادر الى استدعائه.
مخبرون سريون يستفيدون من الخدمات الجنسية:
يلجأ المكتب الى استخدام مخبرين سريين لإلقاء القبض على المشتبه فيهم بممارسة الدعارة او بتسهيلها، الا ان الدراسة لفتت الى أنه في بعض الحالات، يستبيحون لأنفسهم ممارسة الفعل الجنسي فيُلقى القبض على النساء خلال أداء الخدمة الجنسية أو مباشرة من بعد الانتهاء منها. وقد تبرر هذه الممارسات بعدم إمكانية ملاحقة الزبون جزائيا مما يسمح للمخبر بالقيام بدوره دون أن يتعرّض لخطر الملاحقة. (وفق قانون العقوبات، لا يتعرّض الزبون صراحة لأي مسؤولية جزائية). وتستعين الدراسة بمثال مداهمة مركز تدليك، حيث كان المخبر السري في إحدى الغرف مع إحدى المدلكات عاريا من ثيابه بينما كانت المدلّكة تمارس الجنس الشفوي معه.
وتضيف الدراسة إنه في جميع الحالات التي جرت دراستها، لم تتضح كيفية تنظيم عمل المخبرين السريين.» ففي إحدى الحالات جرى الاتصال بالنائب العام الاستئنافي بعد ممارسة المخبر الجنس مع المرأة المعنية لا قبلها.
اللافت هو انه لا تجري الإشارة الى هوية المخبر ولا يُستمع الى افادته حتى لو مارس الجنس مع المرأة، «لا نعرف إذا كان أحد عناصر المكتب أو مخبرا من خارج المكتب». وفي بعض الحالات التي رُصدت تبين ان المخبر أدى دورا أساسيا ليس فقط في الكشف عن ممارسة الدعارة، بل أيضا في الحض عليها، وهو كذلك لم يتورع في هذا السياق عن أداء دور الزبون وإرضاء نزواته الجنسية. ورغم وضوح هذه الممارسة في بعض الملفات فإن القاضي لم يرتب عليها اي نتيجة لجهة صحة الأساليب المستخدمة قانونا.
«الهوى ما بينشرى»: الدعارة تدور حول جنسانية الرجل!
«ما في واحدة بمزاجها، بترتمي بالنار»، تقول إحدى النساء التي جرى استغلالها في الدعارة. شهادات كثيرة لنساء مماثلات وثقها فيلم «أقدم عنف»، الذي تناول «صناعة الجنس في لبنان»، الذي عرض خلال الندوة، التي دعت اليها جمعية «كفى» لإطلاقها حملة «الهوى ما بينشرى».