قبل أكثر من تسعة أشهر، كان سوق الأحد يستقبل، بهدوء، زبائنه من العمّال الأجانب في لبنان. لم تكن هناك زحمة، ولا تدافش. الضجة الوحيدة كانت تثيرها أصوات الباعة وهم ينادون على بضائعهم. تغيّرت الصورة لاحقاً، وها هو السوق يغصّ بالبشر، حتى بات السير بينهم مهمة صعبة. فقد غيّر وجود اللاجئين السوريين الكثير في معالم بيروت وروتين حياتها، وكان لسوق الأحد حصة الأسد من خلال إعادة الحياة إليه بعدما كان «البرستيج» اللبناني قد أفقده إياها.
لم تتعدّ فترة إقامة نور، صبية سورية في الخامسة والعشرين من العمر، في لبنان الشهرين. وها هي تقوم بزيارتها الأولى لسوق الأحد، برفقة أخيها الأكبر سناً لشراء بعض الحاجيات. تركت نور منزلها في الشام برفقة عائلتها ولجأت إلى بيروت بحثاً عن ليل هادئ لا يقطع أحلامها بأصوات الرصاص، لكنها وجدت نفسها في بلد غريب لا يرحّب بها. «الأسعار غالية والمعيشة مكلفة، لذا قصدت هذا السوق لأشتري أغراضاً للمنزل وأوانيَ للمطبخ». تحمل بضعة أكياس ملأتها ببعض الأغراض، بدا منها مكنسة، صحون وفناجين، وتقول إنها لا تزال بحاجة إلى سجادة. قدرة هذه الشابة الشرائية محدودة، كما تقول، وهي أجرت مقارنة في الأسعار بين المتاجر القريبة من الشقة التي تقيم فيها والأسعار في سوق الأحد، واكتشفت أن «الفرق ملحوظ».
محمد، «دون ذكر اسم الشهرة» كما يفضّل، شاب سوري في منتصف الثلاثينيات من العمر. يعمل في لبنان منذ سنتين، وقرّر منذ بدء الأزمة السورية أن ينقل عائلته إلى لبنان «لا أريد أن يعيش أطفالي الثلاثة على أصوات القنابل والرصاص، نقلتهم إلى لبنان واستأجرت بسطة هنا في سوق الأحد، أعمل فيها وأطعمهم من عرق جبيني».
ينفي محمد ازدياد عدد البسطات في السوق بعد توافد اللاجئين السوريين إلى لبنان، ويعلل ذلك استناداً إلى أن «سعر البسطة باهظ، فالإيجار بمعدّل 175 دولاراً أميركياً في الأسبوع مع رفع الأسعار بشكل دائم من قبل الإدارة، وبالأخص أن الطلب على السوق يزداد مع مرور الوقت من قبل السوريين واشتداد وطأة الأزمة في سوريا».
لكن ازدياد الطلب على بضاعته، من خردوات ومسامير ومفكات البراغي وتوابعها، يضعه أمام مشكلة ثانية «بضاعتي سورية، فأنا أقصد الشام بين الحين والآخر لشراء البضاعة وبيعها هنا. والمشكلة أن البضاعة نفسها لم تعد موجودة في سوريا بسبب توقف بعض المعامل والمصانع عن الإنتاج. وهذا الواقع يضعني في مأزق، أنا الآن أصرّف البضاعة التي أملكها ولست قادراً على الإتيان بغيرها، إن كان لجهة التنقل الصعب بين بيروت ودمشق أو لجهة النقص في الإنتاج». وهذا يعني ببساطة أن محمد لن يكون قادراً في وقت لاحق على شراء بضاعة مماثلة من بيروت وبيعها مع تحقيق أرباح «أعتقد بأن الخسارة ستكون حتمية».
من بعيد، يمكن سماع صوته وطقطقة الفناجين بين أصابعه. بائع القهوة المتجوّل، الذي يفضل أن يكون اسمه المتداول في الصحف «بائع القهوة» سوري الجنسية أيضاً. هو في بيروت منذ ستة أشهر، هرب من حلب «لأنني لا أريد أن أموت على أيدي الثوار ولا على أيدي النظام». في بلده، بائع القهوة كان صاحب متجر صغير للمؤونة. وبما أنه غير متأهل، كان يسهل عليه الانتقال من مكان إلى آخر دون مسؤولية زوجة وأطفال. في سوق الأحد، يجني الرجل ما يؤمن له قوته اليومي من بيع القهوة في الشارع «أنا لم أكمل دراستي، وكان لديّ متجر صغير يؤمن لي عيشاً كريماً في سوريا، الآن أتنقل بين شوارع برج حمود في منتصف الأسبوع، ولي موعد دائم مع سوق الأحد في نهايته». يؤكد بائع القهوة أن الحياة في لبنان ليست سهلة، ولا يعمد أحد إلى تسهيلها أصلاً «للتمكن من التجوّل على أراضي سوق الأحد أدفع إيجاراً قدره 15 ألف ليرة لبنانية في الأسبوع، وهو ليس بالمبلغ القليل كما يوحي للبعض، فأنا أبيع القهوة والشاي وتوابعهما وعليّ أيضاً شراء الأغراض لذلك».
وحده، خليل الرفاعي «يتجرأ» ويذكر اسمه بالكامل. الشاب قادم من درعا حيث قصف منزله منذ فترة. يقول «أتيت إلى لبنان لأتفاجأ بأسعار الشقق. أنتمي إلى الطبقة الوسطى، وبرغم ذلك أشعر بأنني من أفقر الفقراء في لبنان. دفعت اليوم مئتي ألف ليرة في هذا السوق ولم أشتر بعد كل ما أتيت لأجله. إن كانت أسواق اللبنانيين الرخيصة بهذا الغلاء، فكيف هي أسواقكم العادية؟».
لا يكاد خليل ينهي كلامه، حتى يرتفع الصراخ على بعد بضعة أمتار. رغم الصخب الذي يلف المكان، يلتفت الجميع للمراقبة، فهناك مشادة كلامية بين بائع أدوات مطبخية وسيدة. تصرخ الأخيرة «إذا كان اسمه سوق الأحد، ليش أسعاره مرتفعة؟ بدّك تسايرني بالسعر. والله أنا مشحّرة». السيدة أمّ لخمسة أطفال، انتقلت حديثاً من سوريا. لم تقنع اللافتة التي وضعها البائع، كاتباً عليها «أوكازيون دائم للأسعار»، فبالنسبة إليها «الغلاء لا يُطاق بلبنان»، متسائلة «إن كان اللبنانيون أساساً يدفعون هذه الأسعار، أم أنه تم رفعها خصيصاً لاستقبال الضيف السوري؟».
في قلب هذا الضجيج المتواصل في السوق، والفوضى العارمة والبضاعة الموزعة بطريقة غير مرتبة، كما هي العادة في الأسواق الشعبية، زاوية تلفت نظر المارّ بجانبها. هدوء غريب وترتيب واضح للبضاعة المصفوفة بتأنّ واضح. لا بسطة هنا يفترشها أحد الباعة، بل واجهات زجاجية كبيرة تعرض فيها مختلف أشكال «الأنتيك». الباعة لبنانيون وكذلك الزبائن. نظراتهم الثاقبة تلاحق المتفرّج مؤنبةً إذا ما لامست يده إحدى التحف، كما في محال الشوارع البورجوازية. هذه الزاوية من السوق الشعبي لبنانية بامتياز، والأسعار فيها لا تشبه باقي مقتنيات السوق، وعلى حد قول أحد المارة من أمامها «هذه زاوية الأشرفية في السوق».
بالتأكيد، لا يقصدها اللاجئون السوريون، كما لا يقصدون وداد، بائعة الفساتين. الأخيرة واحدة من البائعات القليلات في سوق ذكوريّ بامتياز. تعبّر عن عدم سعادتها بقدوم اللاجئات السوريات إلى لبنان. المرأة التي أمضت خمس سنوات في هذا السوق، لم تلحظ أنهنّ ضاعفن من عملها أو أثّرن عليه إيجاباً، رغم كلّ الازدحام الذي يشهده السوق كلّ أسبوع. لا تزال العاملات من الجنسية الفيليبينية يحتللن الصدارة بين زبائنها «السوريات لا يبحثن عن فساتين سهرة، كما أنهن لا ينفقن مالهن على تجميل أنفسهن»، ما يناقضه مصطفى بائع العطور (راجع الإطار).
تتحدث وداد بنبرة حادة لا تختلف بتاتاً عن اللهجة التي تستخدمها شريحة كبيرة من اللبنانيين بتوصيف اللجوء السوري، وكأن لهؤلاء القدرة على انتقاء البلد الذين يريدون العيش فيه، فاختاروا التعايش مع عنصرية بعض المناطق اللبنانية. تقول وداد هذا الكلام، رغم أن قلة قليلة من زبائن السوق هم من اللبنانيين.



إقبال على العطور

أمام واجهة مليئة بزجاجات العطور المعبأة على الطريقة اليدوية، كما في أي سوق سوري شعبي، يقف مصطفى ويغري الشابات والسيدات بـ«الروائح الأكثر مبيعاً هذا الموسم». هو لبناني، لكنه يمارس هذا العمل منذ سنوات. يؤكد أنه قادر على تركيب أي عطر في العالم.
هو أيضاً التفت إلى زيادة الإقبال على سوق الأحد من قبل السوريين، وفي معرض الحديث عن الصبايا الشاميات والحلبيات، يذكر مصطفى أنهنّ أصبحن من أوفى زبائنه بعدما تعوّد على التعامل مع الآسيويات والأفريقيات لسنوات عدة.
تزور الشابات واجهة مصطفى بحثاً عن بعض الدلال لأنفسهن، بحسب الشاب. وبما أنه خبير، بات يمكن «العطر الأكثر رواجاً عند الشاميات هو Escada، أما لدى الحلبيات فهو j›adore، أما الحمصيات فيفضلن cobra». يتراوح سعر زجاجة العطر هنا بين خمسة وخمسة عشر ألف ليرة لبنانية. ومقارنةً بسعرها الأصلي، فالمعادلة مربحة لا محال.