بعد أسبوعين، تنطلق إليان الزغبي نحو حياتها الجديدة في الإمارات العربية المتحدة. كانت تلك الحياة حلمها، حتى قبل أن تنهي دراستها الجامعية في اختصاص الإعلانات. فهنا، تعرف أن الواقع يختلف عن أحلامها التي بنتها على أساس «وضع اقتصادي وأمني مريح». هذا حلم صعب التحقيق في البلد الذي عاشت فيه وتعلمت. لذلك، اختارت الرحيل إلى دبي، حيث تثق بأنه «بعد مزاولة العمل لعدد معين من السنوات، سأتمكن من عيش الحياة التي حلمت بها دوماً».
مع ذلك، لم «تنفّذ» حلمها بعد التخرج مباشرة؛ فقد قررت إعطاء لبنان فرصة أخيرة من خلال العمل في إحدى الشركات. لكنها فوجئت بالراتب الذي لا يغطي نصف ما تنجزه من أعمال. حينها فقط، حدّدت وجهتها: دول الخليج، إلى أن نجحت بتحقيق طموحها «براتب يزيد بثلاثة أضعاف على ما كنت أتقاضاه وبكمية العمل نفسه».
إليان ليست الشابة الوحيدة التي ستهاجر إلى الخليج العربي؛ فمئات المتخرجات حديثاً ينتظرن التأشيرة على أبواب السفارات أو يبحثن عن وظائف في الخارج. وهنا المفارقة؛ فبعدما كان الانتظار عند تلك الأبواب للشباب، فرضت معادلة «المساواة» اليوم وقوف الشابات أيضاً هناك.
هكذا، صارت نقاط الهجرة مزدحمة بالشابات، وما أكثرهن! وثمة عوامل كثيرة تسهل هجرتهن، منها المواقع الإلكترونية المخُصّصة لهذه الخدمات، التي مكّنتهن من انتقاء الوجهة المحددة للعمل والبحث بين مئات النتائج المتوافرة عن العمل في الاختصاص المناسب. وهي المواقع التي نشطت في الوسط اللبناني منذ سنوات قليلة، لتساعد على إيجاد العمل. واللافت حديثاً أن الوظائف في الخليج العربي باتت متاحة أكثر مما هي في لبنان، إضافة إلى حاجة تلك الدول للإناث في بعض الوظائف أكثر من حاجتها للرجال.
لكن الهجرة من «هنا إلى هناك»، ليست جديدة؛ فكل منزل لبناني صار له أقارب في الخليج، حتى باتت الزيارة لإحدى الدول هذه كاجتماع عائلي موسّع، وهو ما شجّع الشابات المتخرجات حديثاً للسفر من أجل العمل. وهو ما انعكس أيضاً في مهمة تذليل العقبات التي كانت تواجه الفتيات في الحصول على التأشيرة. فقبل عدة سنوات، كان على الفتاة اللبنانية تبرير سبب الزيارة وتحديد مكان السكن والعمر وغيرها من التفاصيل. أما اليوم، فقد صار وجود الأهل والأقارب كافياً لتبرير مشكلة السكن والزيارة.
وقد تكون تجربة يارا خير مثالٍ على هذه التسهيلات، فالصبية التي نالت حديثاً شهادة الهندسة الإلكترونية من الجامعة اللبنانية وجدت التأشيرة أمامها إلى قطر، حيث يسكن أخوها منذ أكثر من 7 سنوات.
لكن ما الذي يحصل فعلاً لتصبح الهجرة حلم الفتيات؟ «الوضع العام للشعب اللبناني»، بهذا تجيب شوغيك كاسبريان، الدكتورة في علم الاجتماع والإحصاء. ترى كاسبريان أن الهجرة النسائية التي يشهدها المجتمع اللبناني «ليست ظاهرة نسائية بحد ذاتها، إنما هي مرتبطة بالوضع العام للشعب اللبناني. فالمرأة لا تهاجر فقط لأنها امرأة، لكن تطور المجتمع وانفتاحه يفتح الآفاق أمامها للإقدام على خطوة الهجرة». وتتابع: «في القدم، عندما اشتهر لبنان بالهجرة، لم تكن المرأة بعد قد حصّلت حقوقها الاجتماعية أو التعليمية. أما اليوم، فبعدما أتمت تعليمها وثقافتها تماماً كالرجل، وفي بعض الأحيان أكثر منه، باتت مخوّلة للتفكير في العمل خارجاً».
والسؤال هنا: هل المرأة فعلاً حاصلة على حقوقها في لبنان؟ لا تنفي الدكتورة ولا تؤكد، لكنها تشير إلى أنه «في بعض الأحيان حرمان المرأة حقوقها يدفعها إلى الهجرة أيضاً، كذلك تقاضيها راتباً أقل من راتب رجل يجعلها تصمم على المغادرة». وهي الأسباب نفسها التي دفعت ماري أنطوانيت للهجرة إلى الكويت؛ لأنها اصطدمت بعائق «التمييز بالراتب».
ثلاث سنوات بقيت خلالها ماري أنطوانيت في لبنان، لم تعرف منها إلا معاناتها مع التمييز القاتل بينها كفتاة وبينه كرجل. خلال تلك السنوات، كانت الشابة تقوم «بنفس عمل زميلها في المكتب، ومع ذلك كانت تتقاضى أقل منه»، تقول. هذه الحادثة التي لازمت أيامها دفعتها إلى العيش خارج أسوار بلدها، مرتمية في أحضان الخليج العربي الذي يتعامل معها على أساس أنها منتجة، لا امرأة، ولا يفرّق بينها وبين زميلها الرجل، وإن كانت في عرفه «أجنبية».
وبعيداً عن تلك التجارب التي دفعت الكثيرات إلى أبواب السفارات، إلا أن كاسبريان تفصل بين ثلاثة أنواع من الهجرة النسائية التي يمكن رصدها في المجتمع اللبناني حالياً. النوع الأول «هو الذي لا يزال يجذب أكبر نسبة من النساء تصل إلى حدود 55%، وهو الذي يحدث بدافع الزواج واللحاق بالزوج المهاجر أو المقيم في الخارج». بعد ذلك، يأتي تصنيف الهجرة المؤقتة المتمثلة بترك الوطن لمتابعة الدراسة «وهذه الهجرة غالباً ما تكون إلى البلدان الأوروبية أو الأميركية». أما النوع الأخير من الهجرة، ويندرج تحت مسمى الهجرة الطويلة الأمد، فيكون للعمل أو لتحسين ظروف العمل. وبحسب كاسبريان، يُعَدّ الخليج العربي «من أكبر المستقبلين للنساء اللبنانيات من أصحاب الشهادات العالية»... والأرقام تبيّن صحة هذا الطرح. فبحسب الإحصاءات الأخيرة التي قامت بها كاسباريان، فإن 27.7% من النساء المتخرجات حديثاً يقصدن بلدان الخليج العربي للعمل، فيما 13% فقط يتوجهن إلى القارة الأميركية، و49.8% إلى البلاد الأوروبية، مقسومة بين البحث عن عمل ومتابعة الدراسة أيضاً. أما في ما يتعلق بالعودة إلى الوطن، فإن 28.8% من الشابات اللبنانيات في دول الخليج يصممن عليها، أما 18.3% فلا يفكرن بها أبداً ويردن اكمال حياتهن هناك. والبقية؟ حائرات بين البقاء والعودة إلى لبنان. وهنا، تكمن مشكلة في منتهى الخطورة. فالخليج الذي كان بلد الهجرة المؤقت والقريب للوطن، صار اليوم «بديلاً» من الوطن لكثيرات صمّمن على عدم العودة إلى لبنان.



هجرة ما بعد تموز

51% هي نسبة اللبنانيات من مجموع من هاجروا خلال الفترة الأخيرة ما بعد حرب تموز. خلاصة خرج بها مركز دراسات الانتشار اللبناني بجامعة اللويزة. لكنها ليست الخلاصة الوحيدة؛ فقد أشارت دراسة قام بها علي فاعور، الأستاذ المتقاعد من «اللبنانية»، عن هجرة الشباب، إلى أن ما بعد حرب تموز هاجر 120 ألفاً من الشباب، معظمهم من الفتيات.