في غرفة طينية شاهدة على ما تبقى من التراث المعماري لقرى البقاع، تجلس نهلة سكرية على مقعد خشبي أمام نول حياكة قديم، وقد بدأت العمل على حياكة سجادة قد تحتاج إلى شهرين أو أكثر قبل إنجازها. تفرح السيدة، التي ورثت حرفة صناعة «السجاد الفيكاني» عن أهلها، لسماعها عن إنشاء حمى الفاكهة.
«المهم أن يكون المشروع جدياً، وأن يساهم في تسويق الإنتاج لأن هذه الحرفة تحتاج الى دعم، وإلا فإنها في طريقها الى الزوال»، تقول سكرية لـ«الأخبار» التي واكبت قبل أيام حفل إطلاق المشروع الموقع بين بلدية الفاكهة _ الجديدة وجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) بالتعاون مع جمعية تنمية الموارد المحلية (CREADEL) وبتمويل من صندوق شراكة الأنظمة البيئية الهامة (CEPF) في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
ويهدف إعلان «حمى الفاكهة»، وهو الثامن من نوعه في لبنان، الى تنظيم الاستخدامات المستدامة والمحافظة على مواردها الطبيعية، مثل الصيد والرعي عبر إعادة تكوين نظام بيئي متجدد.
يتضمن المشروع الذي وافق عليه المجلس البلدي، المنتخب خلال الجولة الفرعية للانتخابات البلدية العام الماضي، تصنيف المنطقة العقارية الممتدة على مساحة 5904 هكتارات، وتضم الفاكهة والجديدة والمعلقة والزيتون، وترتيبها.
رئيس بلدية الفاكهة _ الجديدة أنطوان الخوري أعلن أن المجلس البلدي متحمس لهذا المشروع، وحدّد خريطة الحمى التي ستمتد من طريق وادي فعرة غرباً حتى حدود منطقة الشرقي. ودعا جميع البلدات اللبنانية إلى تكريس نظام الحمى الذي مارسته القرى والبلدات اللبنانية كتقليد موروث، بما يضمن الاستفادة القابلة للاستمرار من الموارد الطبيعية، منوّهاً بإدارة مياه الري في البلدة القائمة على نظام الحصص الشديد الدقة، والذي يتوارثه أصحاب الأراضي جيلاً بعد جيل، وهو واحد من الأمثلة الناجحة لنظام الحمى.
ويلفت أسعد سرحال مدير جمعية SPNL إلى أن الفاكهة مصنّفة من قبل المجلس العالمي لحماية الطيور، كمنطقة فائقة الأهمية لعشرات من أنواع الطيور المقيمة والمهاجرة. وهي جزء من المنطقة التي تضم أقصى الطرف الشمالي من وادي بعلبك، في الشمال الشرقي للبنان، وتمتد إلى سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية. ويضيف سرحال: «درسنا المنطقة جيداً فوجدنا أن تنظيم الصيد هو البديل الوحيد من الوضع الحالي، حيث لا يتم التقيد بقرار منع الصيد، وذلك عبر الالتزام بموسم صيد الطرائد المحددة ضمن مراسيم أصدرها المجلس الأعلى للصيد البري (من تشرين الأول لغاية شباط)، ونأمل تعاون الصيادين مع الشرطة البلدية والقوى الأمنية والتقيد التام بهذه الإجراءات بعد أن يخضعوا للامتحانات الإلزامية للحصول على رخصة صيد».
ويشدّد سرحال على الفارق الكبير بين المحمية التي تعلنها الدولة عبر القانون، الذي يبقى في غالب الأحيان عرضة للانتهاك أو عدم التطبيق، وبين نظام الحمى الذي يتبناه الناس ويدار عبر المجتمع المحلي. ويضيف: «أعادت جمعية حماية الطبيعة إحياء نظام الحمى العربي في عدد من المناطق اللبنانية منذ عام ٢٠٠٤، وتم تبنيه في العديد من الدول العربية والأجنبية، وقد صنف من بين أهم ٢٠ إنجازاً عالمياً في تاريخ الحفاظ على الطيور والموائل الطبيعية في العالم».
ويسجل لجمعية (SPNL) الشريك الوطني للمجلس العالمي لحماية الطيور تعاونها مع البلديات والسكان المقيمين وقطاعات الإنتاج، في استعادة نظام الحمى في مواقع عدة، أبرزها: إبل السقي وكفر زبد وعنجر والقليلة والمنصوري وعندقت، وسعيها الى إعادة تكريس النظام الموروث في استخدام الموارد وتصنيف الأراضي وحمايتها في جرود الهرمل.
أحصى الأستاذ في البيئة وعلم التصنيف في الجامعة اللبنانية د. غسان جرادي في دراسة نشرها في نسخة محدثة في 2008 حوالى 360 نوعاً من الطيور، بينها 260 طيراً مهاجراً. جرادي قال لـ«الأخبار» إن الفاكهة كان لها نصيب وفير من الدراسة، حيث سجل أكثر من 50 نوعاً، بينها 10 أنواع ذات إقليم حيوي محدد (biome-restricted) تتزاوج فيها، معظمها من ضمن الإقليم الحيوي للصحراء الكبرى وصحراء السند، وهي: الكروان العسلي، القبرة مقلمة الذنب، قبرة الصحراء، قبرة تمنك، الأبلق الحزين، الهازجة المُقلّمة، الزمير الوردي، قانص البندق الصخري الغربي، دوري الصخر الباهتة، وهازجة أم نظارة. ويضيف جرادي «من أصل هذه الأنواع، هناك سبعة أنواع نادرة أو غير معروفة كطيور تتزاوج في أماكن أخرى في لبنان. عدة أنواع أخرى تتزاوج عادة هنا وهي نادرة التعشيش في أماكن أخرى في البلاد مثل البومة الصغيرة والقبرة القصيرة الأصابع».
ويشرح جرادي أن واحداً من أهم الاستنتاجات التي خرجت بها الدراسة تأثر بإقامة الطيور وهجرتها بظاهرة تغير المناخ، حيث سجل في هذه المنطقة نوعان غير معروفين من قبل، هما: قبرة الصحراء موشمة الذنب، وهو نوع من الصحراء الساخنة، وطائر نمنمة الشجر، وهو نوع صحراوي وشبه صحراوي، وعلى الأرجح أنّ ظهور هذه الأنواع في لبنان، ولا سيما في الفاكهة والقاع والهرمل وبعلبك قد لا يعود إلى الجهود التي بذلت لمراقبةٍ زائدة أو بسبب تغيير موائلها الطبيعيّة، بل على الأرجح نتيجةً لظاهرة الاحتباس الحراري.
يعوّل د. أكرم سكرية مدير جمعية تنمية الموارد CREADEL على إسهام المشروع في إحياء الإرث الثقافي للبلدة، وخصوصاً صناعة السجاد وتسويق الإنتاج المحلي وتنظيم الصيد والرعي. وبحسب سكرية، فإن العديد من أهالي البلدة يؤجرون غرفاً صغيرة بنوها في أراضيهم الزراعية لمئات الصيادين الذين يقصدون سهل البقاع في موسم الصيد، وسنسعى إلى استفادة جميع أبناء البلدة من هذا المورد الهام عبر تنظيمه. أما بخصوص الرعي في أراضي البلدة، فيؤكد سكرية على ضرورة توعية الرعاة من خلال عدم اقتراب الماشية من المناطق المعاد تحريجها، وتأمين الرعاية البيطرية بأسعار مدروسة. ويعول سكرية على إعادة إحياء وزارة الطاقة والمياه لمشروع سد الفاكهة في منطقة مرور السيل الذي يخترق البلدة، وغالباً ما يسبّب أضراراً بالغة في المزروعات.
مدير مشروع «حمى الفاكهة» باسكال عبد الله، متحمس للعمل في البلدة التي ورث فيها عن جده لأمه، رشيد نصر، منزلاً هو أقرب الى متحف صغير. ولقد نجح عبد الله في استقطاب عدد من السياح الأجانب الى المنطقة، وهو يخطط لتحويل البيت الى نزل صغير يستقبل السياح، على أن يشمل برنامج رحلتهم البيئية زيارة الحمى والتعرّف على التنوّع البيئي والبيولوجي للبلدة التي تحتضن مساحات شاسعة من التنوّع النباتي، بينها نباتات عطرية وطبية، وفيها عدد من المعالم التراثية، أبرزها قناة أنشأتها الملكة زنوبيا لجرّ المياه من نبع اللبوة إلى تدمر، وتخترق هذه القناة سهل البقاع بطريقة ملتوية مخططة للتلاؤم مع جاذبية انسياب المياه، وهي تعاني من إهمال شديد أدى إلى طمر بعض أجزائها وتحوّلت أكثرها إلى مرتع للنفايات.



نظام الحمى العربي

في أيار عام ٢٠٠٨، نجحت جمعية حماية الطبيعة في لبنان SPNL في نقل تجربة نظام الحمى إلى المنطقة العربية، حيث تم تأسيس صندوق الحمى، ومركزه قطر، لتقديم الدعم للمحافظة على المناطق المهمة للطيور IBAs. ويهدف هذا الصندوق الإقليمي إلى دعم المحافظة على شبكة من المواقع المهمة التي تعتمد عليها الطيور لبقائها وحماية أنواع الطيور المهددة بالانقراض.
وبحسب مدير جمعية SPNL، أسعد سرحال (الصورة) نجحت جهود الجمعية بالتعاون مع وزارة الغابات والموارد المائية النمسوية، في التصويت على قرار دولي لتعزيز ودعم «نظام الحمى» من خلال مشاركة المجتمع كأساس للتنمية المستدامة، وذلك في المؤتمر العالمي الخامس للمحافظة على الطبيعة الذي نظمه الاتحاد العالمي لصون الطبيعة (IUCN) الذي عقد في جزيرة جيجو، كوريا في أيلول ٢٠١٢.
ويتوقع أن يحظى «نظام الحمى» برعاية خاصة في المؤتمر العالمي للمجلس العالمي لحماية الطيور (BirdLife International) المزمع عقده في مدينة أوتاوا في كندا في حزيران ٢٠١٣.