إن قراءة سريعة لخلاصة الدراسة الاكتوارية التي قدّمتها منظمة العمل الدولية لوزارة العمل أول من أمس، تثير الكثير من الأسئلة، إن لم تكن تساؤلات. فالمشروع المذكور يقوم على الأسس الآتية: بعد أن يتقاعد الأُجراء فوق سن 55 على أساس النظام المعمول به حالياً في الضمان الاجتماعي، أي تعويض نهاية الخدمة، يأتي الفوج الأول من المتقاعدين وفق النظام الجديد في عام 2025 الذي سيخلق صندوقاً للتقاعد يموّل من خلال معدّل اشتراكات محدّد بـ15%.
لا يذكر المشروع كيفية توزيع هذه النسبة بين الدولة وأصحاب العمل والعمال، لكنه يشير إلى أن الأموال المجبيّة من الاشتراكات ستوظّف في سندات الخزينة الحكومية لتوفّر للمتقاعد أو ورثته، أو في حالة عجزه، مبلغاً شهرياً من المال يوازي 75% من الحدّ الأدنى للأجور، على أن يحتسب سن التقاعد على أساس الـ64 عاماً بعد الأخذ في الاعتبار، بالنسبة إلى حركة الصندوق الشاملة، التطور السكاني وكلفة مختلف المستفيدين من صندوق التقاعد والتضخّم، ومعدل الحياة، وسواها.
هل يكون مشروع المنظمة قابلاً للحياة، أم أن مصادر التمويل والتقديمات التي يتضمنها المشروع هي التي قد تجعله منطقياً ومقبولاً؟
جاء مشروع منظمة العمل الدولية ليلغي 49 عاماً من الانتظار لإقرار نظام للتقاعد لدى القطاع الخاص. هو مشروع قابل للحياة بحسب الدراسة الاكتوارية التي قدّمها الخبير الاكتواري بيار بلاموندون أول من أمس امام وزير العمل ولجنة خاصة. خلاصة الدراسة أن جدوى وكلفة الصندوق المقترح مدروسة لمدّة 100 سنة، لكن هذا لم يمنع المنظمة من اقتراح إعادة تقويم مرّة كل ثلاث سنوات «لتقويم ملاءمة معدل الاشتراكات ووضع التوصيات بالتعديلات بحسب المقتضى».
ويخضع هذا الصندوق، بحسب الدراسة، لمجموعة من الضوابط أو المعايير التي تجعله مجدياً وقابلاً للحياة كل هذه الفترة على أساس معدل اشتراكات وسطي يبلغ 15%. فقد وضعت الدراسة ثلاثة أسقف للرواتب الخاضعة للاشتراكات:
ــ تخضع 75% من الرواتب التي توازي 3 أضعاف الحد الأدنى للأجور، أي إن الرواتب التي لا تتجاوز 2.025 مليون ليرة تخضع بنسبة 75% منها، فيدفع الاشتراك على أساس 1.518 مليون ليرة.
ــ تخضع 83% من الرواتب التي توازي 4 أضعاف الحد الأدنى للأجور، أي إن الرواتب التي لا تتجاوز 2.7 مليون ليرة تخضع بنسبة 83% منها، فيدفع الاشتراك على أساس 2.241 مليون ليرة.
ــ تخضع 88% من الرواتب التي توازي 5 أضعاف الحد الأدنى للأجور، أي إن الرواتب التي لا تتجاوز 3.375 ملايين ليرة تخضع بنسبة 88% منها، فيدفع الاشتراك على أساس 2.97 مليون ليرة.
وأشارت الدراسة إلى وجود أكثر من 7 آلاف مليار ليرة في صندوق تعويض نهاية الخدمة اليوم، وأوضحت أنه قد يتوجب زيادة سن التقاعد إلى ما بعد الـ64 لتغطية الكلفة، وعلى أساس أن هناك جزءاً من المنتسبين إلى هذا الصندوق سيستفيد من التقاعد المبكر في سن الـ58.
وتضيف معطيات الدراسة الاكتوارية أن عدد المستفيدين من الصندوق يبلغ اليوم 290658 مضموناً، فيما سيرتفع العدد إلى 682944 مضموناً في عام 2035، وهو الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يبلغه عدد المستفيدين خلال 100 سنة (انظر الجدول).
إذا كانت هذه هي توازنات الصندوق الاساسية وفق مقاربة المنظمة، فما هي المقاربة السابقة التي استقطبت خلافاً حاداً وقوياً بين أصحاب العمل والعمّال امتد على مدى أكثر من 15 جلسة؟ وبالتالي ما هو الفرق بين هذا المشروع وباقي المشاريع التي كانت مطروحة لإقرار نظام للتقاعد؟
في الواقع، إن الملاحظة الأساسية في هذا المشروع أنه فصل نظام التقاعد عن الحماية الاجتماعية. والسبب هو أن النواب الذين شاركوا في صياغة هذا المشروع قالوا إن وزارة الصحة تعمل بصورة منفصلة على صياغة مشروع للتغطية الصحية الشاملة على كل الأراضي اللبنانية، وهو ما يعني أن إقرار مشروع للتقاعد يأخذ بالاعتبار الضمان الصحي للمتقاعدين يصنّف على أنه ازدواجية في العمل الحكومي.
لم يأخذ هذا الرأي الاعتبار أن المشاريع في لبنان كثيرة ومتعددة وتأتي وتذهب كيفما شاءت أهواء أصحاب السلطة، لكنْ لوزير العمل سليم جريصاتي رأي مختلف يشير فيه إلى وجود مشروع احتياط. ففي حال تأخير إقرار مشروع التغطية الصحية الشاملة «سأعمل على إقرار مشروع التغطية الصحية للمضمونين المتقاعدين، وهو الذي يوفّر للمضمونين المتقاعدين معالجة هذا الوضع» يقول جريصاتي.
لعلّ في الأمر بعض الجرأة، لكن لا يمكن إغفال ما حصل أثناء مناقشات اللجنة التي كانت تدرس مشروع نظام التقاعد والحماية الاجتماعية المعروف بنظام الشيخوخة أثناء تولي بطرس حرب وزارة العمل. يومها احتدّ الخلاف بين أصحاب العمل والعمال على 3 عناصر أساسية:
ــ العنصر الأول يتعلق بتوزيع معدل الاشتراكات على الأطراف الثلاثة، أي العمال، أصحاب العمل، الدولة. وقد وصل الخلاف بينهما إلى درجة أن أصحاب العمل رفضوا أي مشروع يدمج بين التغطية الصحية للمضمونين المتقاعدين ونظام التقاعد، ورفضوا أن يرتفع معدل الاشتراكات في صندوق التقاعد من 8% إلى 12%، وأن تضاف نحو 5 نقاط مئوية على نظام التغطية الصحية لتمويل «الحماية الاجتماعية»، لا بل إن بعضهم ذهب في اقتراح أن تتحمّل الدولة 4 نقاط مئوية، أو أن يتحمّل العمال كلفة اساسية في هذا النظام ليكون مقبولاً لهم.
ــ العنصر الثاني يتعلق بالنقاش الذي كان دائراً بين العمال واصحاب العمل على سقف الراتب الخاضع للاشتراكات، ففيما كان العمال يطالبون بأن يخضع كامل الراتب لاشتراكات لتمويل النظام الجديد للتقاعد والحماية الاجتماعية وعدم تحويله إلى نظام ضمان اختياري جديد، أي صندوق قابل للإفلاس بعد فترة، كان أصحاب العمل يريدون أن يضعوا سقفاً لهذا التمويل.
ــ أما العنصر الثالث، فقد كان يتعلق أكثر بإدارة واستثمار أموال صندوق الضمان التي سرعان ما اتفق عليها الجميع لتكون بيد إدارة الضمان.
أما في الحالة المقترحة اليوم، فقد كان هناك اتفاق بين النواب عاطف مجدلاني ونبيل نقولا مع وزير العمل سليم جريصاتي، على أن تكون إدارة واستثمار أموال صندوق التقاعد خارج الضمان الاجتماعي؛ «لأن الأمر يحتاج إلى خبراء في هذا المجال» يقول جريصاتي.