البنك اللبناني الكندي دفع الثمن. قبل 18 شهراً كان هذا المصرف هو خامس أكبر المصارف اللبنانية بموجودات تتجاوز 5 مليارات دولار. أما اليوم، فهو قيد التصفية بسبب ادّعاء وزارة الخزانة الأميركية عليه بتهمة تبييض أموال حزب الله. المزاعم الأميركية حوّلته إلى مأوى لتنظيف المال الفاسد وتمويل شبكات الإرهاب وفرضت على مالكيه بيع بعض أصوله وموجوداته إلى SGBL، لكنها لم تتحوّل إلى «أدلّة» في محكمة نيويورك. عندها ظهرت «التسوية» خياراً لتبييض سمعة المصرف. لم تُكمل المفاوضات شهرها الثاني حتى وافقت محكمة نيويورك على تسديد المصرف 102 مليون دولار مقابل شطبه عن اللائحة السوداء.
هي تسوية على طريقة «الكاوبوي» بدأت بمزاعم وانتهت بتسوية مدفوعة الثمن. قبل يومين صدر قرار محكمة نيويورك بشأن البنك اللبناني الكندي. ينصّ القرار على أن تحصل الولايات المتحدة الأميركية على مبلغ 102 مليون دولار لتسوية أوضاع البنك اللبناني الكندي. هذا يعني أن أميركا لن تنتظر تحويل الأموال، بل ستقتطعها مباشرة من أموال المصرف المحجوز عليها لدى البنك اللبناني الفرنسي. تبلغ قيمة الأموال المحجوزة 150 مليون دولار، ما يعني أن البنك اللبناني الكندي سيستعيد مبلغ 48 مليون دولار.
في الأصل، إن المبلغ المحجوز عليه هو جزء من المبالغ التي سدّدها SGBL ثمناً لاستحواذه على موجودات ومطلوبات البنك اللبناني الكندي بقيمة 580 مليون دولار، وقد أودع كضمانة في انتظار إنجاز أعمال تصفية البنك اللبناني الكندي وإتمام نقل كل الموجودات (باستثناء 36 حساباً رفضها SGBL وذهبت إلى مصارف أخرى). هذا يعني أن قيمة الصفقة، بالنسبة إلى مساهمي البنك اللبناني الكندي، ستبلغ 478 مليون دولاراً.
في المقابل، إن قرار محكمة نيويورك يشير إلى أن «الولايات المتحدة لن تتخذ أي إجراء ضدّ أيّ أمر يتعلق بعملية الاستحواذ التي قام بها SGBL لموجودات البنك اللبناني الكندي ومطلوباته... واتفاقية التسوية ستنهي كل ما يتعلق بالادعاءات الأميركية في ما خص البنك اللبناني الكندي، وتقرّ بأن له الحق في الحصول على المبلغ المتفق عليه (48 مليون دولار)».
هذه التسوية لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها 18 شهراً من الضغوط بدأت بمرحلة المزاعم الأميركية التي انكشفت في 15 كانون الأول 2011. يومها أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أنها وضعت البنك اللبناني الكندي على اللائحة السوداء، متهمة إياه بالانخراط في شبكة تبييض أموال تجارة المخدرات والسلاح لمصلحة حزب الله. هذه الشبكة قيل إنها تضم صرافين وتجار سيارات وشركات وأفراداً لبنانيين... كلهم لديهم علاقات تجارية بين لبنان وأفريقيا.
هذه الخطوة بثّت الرعب في المصارف اللبنانية؛ لأن القرار الأميركي، بحسب قول عضو في مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان، كان «ذا خلفية سياسية ويتيح للولايات المتحدة توجيه أي اتهام لأي مصرف آخر وتدميره من دون أي دليل وقبل أي مراجعة». حتى إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تورّط في هذا الأمر عندما أصدر بياناً يدافع فيه عن البنك اللبناني الكندي بعد يوم واحد على وضعه على اللائحة السوداء... «وسلامة دفع ثمن هذا البيان خلال لقاءاته مع مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية»، يقول العضو نفسه. ومع إصرار أميركي لكشف تفاصيل 36 حساباً كانت لدى البنك اللبناني الكندي قبل بيعه لـ«SGBL»، كان أصحاب المصارف يخشون توجيه أي اتهام لهم بالتعامل مع حزب الله أو النظام السوري أو إيران. وزاد الضغط عندما طلبت مصارف المراسلة الأميركية من المصارف اللبنانية وقف التعامل مع الصرافين وتجار السيارات.
إزاء ذلك، أبلغ سلامة إدارة البنك اللبناني الكندي أن الأميركيين موافقين على بيع المصرف لأي من المصارف السبعة الأكبر في لبنان، ثم انصرف إلى إطلاق ورشة داخلية تتعلق بمكافحة تبييض الأموال. أصدر مذكرة يحذّر فيها المصارف من فتح حسابات جديدة للسوريين والإيرانيين والسودانيين، ثم أجرى تعديلات على القانون 318 الخاص بمكافحة تبييض الأموال، وقدّم لمجلس النواب مشروع قانون لمنع دخول الأموال النقدية إلى لبنان. أما المصارف، فقد دبّ فيها الرعب وقرّرت التبرّع بمبلغ 32 مليون دولار لتمويل كلفة المحكمة الدولية.
اليوم برزت مرحلة «تسوية مؤقتة» تزامناً مع أمرين: الأول هو أن مصرف لبنان أنجز تدقيقاً واسعاً ومفصلاً بالحسابات الـ36 التي يبحث عنها الأميركيون. بنتيجة التدقيق، تبيّن أن هذه الحسابات تنطوي على تحمل «مخاطر ائتمانية» وهو أمر مشروع. أما الأمر الثاني، فهو يتعلق بتفاصيل المحاكمة في نيويورك، حيث تبيّن ــ بحسب مصادر مصرفية متابعة ــ أن عدم تقديم وزارة الخزانة الأميركية أي دليل يدعم مزاعمها بشأن تبييض أموال لمصلحة حزب الله، كان عنصراً حاسماً لمصلحة التسوية. القيّمون على البنك اللبناني الكندي قالوا في بيان أمس إنها «تسوية مشرّفة أبرمت مع المحكمة الأميركية على قاعدة رفض المصرف وإنكاره وجود أي مخالفات أو أي تواطؤ إداري أو تورّط في أنشطة إرهابية أو أي عمليات تبييض أموال». أما الأميركيون، فقد اكتفوا بمضمون قرار المحكمة.
لعلّ الأميركيين يعلمون أن الثمن مدفوع سلفاً، وأن الرسالة المقصودة من خلال اتهام البنك اللبناني الكندي وصلت إلى من يهمه الأمر. ما يؤكد ذلك، أن الإدارة الأميركية كانت تطالب بسداد مبلغ 380 مليون دولار تعويضاً عن تبييض أموال المخدرات لمصلحة حزب الله، لكن المبلغ المدفوع احتُسب في إطار مختلف؛ فهو لم يكن تعويضاً للولايات المتحدة عن إدانة المصرف بتبييض أموال حزب الله «الفاسدة»، بل كان ثمناً دفعه هذا المصرف بعد ضغوط مارستها وزارة الخزانة الأميركية على مصارف لبنان واستعمالها البنك اللبناني الكندي كإحدى أدوات الضغط والتهويل لتطويع القطاع المصرفي في خدمته. لم يكن البنك اللبناني الكندي، كمؤسسة، هو الهدف بحدّ ذاته، بل كان جسراً لتوجيه رسالة إلى الجميع بأنّ الأميركيين قادرون على ضرب أي مصرف في أي وقت... و«الجميع» كلمة تعني المسؤولين عن القطاع والمصرفيين وكل بنية الأعمال ورجال الأعمال في لبنان.
في رأي مصرفيين أنه كان يجب تطويع هذه البنية لاستعمالها كوسيلة ضغط سياسي، وإجبار المصارف في الوقت نفسه على نبذ ومعاداة مهاجري أفريقيا «الشيعة» والحدّ من تدفقاتهم المالية إلى لبنان. الهدف الأميركي لم يكن بسيطاً، بل كان استراتيجياً وكان «يستهدف محاصرة حزب الله مالياً الذي يتردّد كثيراً أن مغتربي أفريقيا هم مصدر أساسي لتمويله».



الملف قد أُقفل

خلال مؤتمر مصرفي أقيم أمس، قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (الصورة) إن «لبنان مرّ بفترة ضغوطات دولية على قطاعه المصرفي، وهذا الشيء أصبح وراءنا. فبالأمس، تبلّغت أنه قد تمّت تسوية بين الحكومة الأميركية والبنك اللبناني الكندي. هذا الملف قد أُقفل».
كان البنك اللبناني الكندي الشرارة الأولى للضغوط التي يتحدث عنها سلامة. ولعل هذا المصرف قد دفع الثمن عن القطاع المصرفي برمته، حتى إن التسوية الأخيرة التي أنجزتها المحكمة الأميركية معه لا يفهم منها إلا كونها رسالة بأنّ أي مصرف معرّض للمخاطر نفسها من دون أي دليل.